بسم الله الرحمن الرحيم
تاريخ
دولة الإسلام يمتد لقرون طويلة من الزمان، وهي حقبة أساسية غاية في
الأهمية من تاريخ الأرض، أمتدت عبر حكم الخلفاء الراشدين، مرورًا
بالأمويين، فالعباسيين، فالعثمانيين. ونسبة معرفة المسلمين لتاريخ هذه
الحقوب نسبة قليلة جدًا، ومن يعرف المعلومات الصحيحة والحقيقية عنها نسبة
أقل من الأولى، وللأسف يقع المسلمون في هذا الخطأ الضخم بعدم معرفة
تاريخهم، وعوامل نهوضهم انحدارهم، فتتكرر مأساتهم وإذلال أعدائهم لهم مرات
ومرات للوقوع في هذا الخطأ الجسيم. وتاريخ الخلافة العثمانية من الحقوب التي لا يعرف عنها أبناء الإسلام شيء يذكر، وإذا علم شيئًا فإنه يصل إليه مشوه غير صحيح، فتصور
من من خلال المناهج التعليمية -في مصر مثلًا- كأنها احتلال للبلدان
العربية، فتُعرض المرحلة الأخيرة فقط لنا من تاريخها حيث كانت نهايتها
وضعفها؛ وذلك على الرُغم من الدور الكبير التي لعبته في الحفاظ
على البلدان العربية الإسلامية من هجمات الأعداء المختلفة لمئات السنوات.
والدولة العثمانية كغيرها من الدول تكون في بداية عهدها دولة صغيرة، ثم
تكبر بالتدريج حتى تصل للقمة، ثم تأخذ سلم الانحدار تدريجيًا وصولًا إلى
السقوط والزوال، لذا ففي قرونها التي حكمت فيها مساحات شاسعة من الأرض وصلت
في قمتها إلى حوالي 20 مليون كم2، -وهي أكبر دولة في تاريخ الأرض حكمت هذه
المساحة- فكان لها من الأعمال الصحيحة والعظيمة، كما كان لها من الأعمال السيئة الضئيلة بإختلاف فترات الضعف والقوة.
قال صلى الله عليه وسلم: “إن حقًا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه” رواه البخاري.
السبب الذي دفعني لأكتب هذه التدوينة هو حبي للسلطان المسلم عبد الحميد الثاني، أحد أعظم السلاطين العثمانيين، وأكثر سلاطين آل عثمان
تعرضًا للظلم في التاريخ الحديث، وأعظمهم قدرًا في عصر انحطاط الدولة
العثمانية، والذي عمل على الدفاع عن الدولة من الزوال لمدة تزيد عن ثلث
قرن، عندما تسلّمها وهي في مرحلتها الأخيرة بعد ضعف شديد وشلل أصابها،
ليحاول إعادة الدولة مرة أخرى والمحافظة عليها من السقوط؛ عبر إدخال
التحديث والتطوير للدولة في كافة الميادين، فهو يعد بحق رائد العلم
والتحديث في الدولة العثمانية في عصرها الأخير. كان السلطان عبد الحميد
موضع حب وتقدير من كافة المسلمين الموجودين في عصرة؛ فصار رمزًا للمسلمين
والعثمانيين في نظر أعدائهم، فأصبح هدفهم القضاء على هذه الشخصية ذات
القدرة المتميزة. فالسلطان عبد الحميد من وجهة نظري أحد أعظم شخصيات القرن
التاسع عشر والعشرون، ويستحق بأن يُلقب بأنه آخر خلفاء الدولة الإسلامية؛
نظرًا لأن الذين أتوا بعده لم يكن هناك سلطة فعلية في يديهم وكانت بيد
حكومة الاتحاد والترقي بعد خلعها للسلطان ونفيه بانقلاب عسكري.
بداية الحديث نقول أن
السلطان بشر، وأي بشر يصيب ويخطئ في حياته، فتاريخ الفرد ليس كله محاسن ولا
كله مآخذ، بل تجتمع فيه هذا وذاك، ونحن نقوم بتقييم الشخص بالأعمال التي
تغلب عليه، فالمثل يقول : ” أنت أكثر ما يغلب عليك “، لذا
عند وضع أعمال السلطان في الميزان فبناء على الأدلة التاريخية الموثقة
والوثائق التي ترجع لعهده، ترجح الأعمال الخيرة التي قام بها السلطان
،والتي أسال الله أن تكون خالصة لوجهه وفي ميزان السلطان يوم القيامة.
الرد مني على محمود عبد الرحيم عرفات، وهو مدون ليبرالي (علماني) يعيش بمدينة طنطا. لديه اهتمام بالتاريخ التركي الأتاتوركي نظرًا لحبه الشديد لمصطفى كمال أتاتورك.
عرض الأستاذ محمود
مجموعة من الشبهات في مدونته تهدف إلى تشويه صورة السلطان؛ عن طريق صياغة
أسئلة تعطي لمن يقرئها معلومات غير صحيحة تشوه صورة هذا الرجل العظيم رحمه
الله، وقبل الحديث عن الشبهات والرد عليها أقوم بعرض نُبذة بسيطة عن آراء
الأستاذ محمود الدينية؛ فقط من باب معرفة عقلية من نرد عليه. فالأستاذ
محمود من نوعية الأشخاص الذين يقومون بمهاجمة الدين ولكن بصورة غير مباشرة؛
عن طريق سب رجال الدين ووصف أفكارهم بالرجعية والتخلف، وذلك لأنه لا
يستطيع مهاجمة الدين مباشرة؛ إذ سيفقد نسبة كبيرة من القراء الذين يصلون
لمقالاته، ولن تؤثر فيهم، فليس هناك مانع من التستر بعباءة ذات شكل مختلف
ولكن بنفس المقصد من المقالات -وهو الطعن- والذي يغيب عن كثيرين. هذا النوع
من المهاجمين يعمل هل إثارة الشبهات حول مواضيع معينة، فيتشكل في العقل
الباطن للقارئ صورة معينة عن هذه النقاط الدينية؛ مستغلًا حالة الجهل
الديني الشديد في المجتمعات العربية، فلا يعرف القارئ المسلم إن كان هذا
الكلام صحيحًا أم لا، فتنطبع في ذهنه هذه المغالطات كمعلومة أولى، وتتكرر
في مقالات ومواضع أخرى إلا أن يُبنى في ذهن القارئ جدار يحول بينه وبين
الحقيقة، فلا يرى بعد ذلك إلا ما عرفه أول مرة. يرى الكاتب -كغيره من
العلمانيين- أن الإسلام ما هو إلا أخلاقيات فقط وأن الشريعة الإسلامية
الصحراوية لا تناسب زماننا هذا، وأن الزمان قد تطور فكيف نُحكم الآن
بقوانين من 1400 عام؟ “فالشريعة في شئون الدنيا قوانين لكنها خاصة بتحقق المصلحة فإن انتهت المصلحة أستُبدلت الشريعة“.
من كارهي نظام الخلافة الإسلامية
ويرى أنه لا سياسة في الدين، أو نقول ما يمت بصلة بعلاقة الدين في الحياة
بصورة عامة، و الحكم بصورة خاصة. من آرائه أن مصر يجب أن تكون “دولة مدنية علمانية صارمة لصالح المواطنة و الدستور المدني“، وأنه “لو ورد ألف حديث من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام في مسألة فإنه لن يأخذ إلا برأي العلم“،
ناهيك عن سبه للملتحين ووصف الإسلاميين بالإرهابيين وغيرها، ونظرًا لعدم
حبه للخلافة -التي تحكم بمرجعية دينية- وحبه لهذه الحقبة من التاريخ التي
بدء فيها نظام الجمهورية العلمانية، منعه هذا من أن يكون موضوعيًا في
الحديث عن الخليفة عبد الحميد الثاني، -وكيف يكون موضوعيًا في الحديث عن
شيء يكرهه!!- ونظرًا لأنه خليفة حاول إرجاع قوة الدولة في عصر احتضارها،
لذا فهو من وجهة نظره مستبد وفاسد و خائن أيضًا. من بين المقالات التي
يكتبها، قام الأستاذ محمود بكتابة مقالتان للطعن في السلطان، الأولى بعنوان
: “في مسألة سقوط الخلافة.. فلنتسأل عن السلطان عبد الحميد الثاني” وهي خاصة بمسلسل “سقوط الخلافة”
والذي تدور أحداثه بداية من تولي السلطان عبد الحميد الثاني – رحمه الله –
الحكم 1876 إلى وفاته عام 1918 وموقفه من بيع فلسطين لليهود.
الثانية بعنوان: “حتى لا تنجرفوا وراء مسلسل سقوط الخلافة .. هذا ما حدث“،
وهي تشويه لصورة السلطان التي عُرضت في المسلسل، وإظهاره بصورة المستبد
الذي يريد أن يحكم الدولة في قبضته، وإظهار جمعية الإتحاد والترقي -اللصوص-
بأنها جمعية تهدف إلى النهوض بالدولة، ومدحت پاشا الخائن على إنه رجل
إصلاحي، وبالطبع هذه الإفتراءات الموجهة للسلطان والكلام على الخونة على
أنهم إصلاحيين كلام ليس له أساس من الصحة، فبالأدلة التاريخية الموثقة أعرض
هنا إن شاء الله دليل كذب إفتراءاته الموجودة في المقالة الأولى، وإنها
عبارة عن كلام لا يستند إلى حقائق بل إلى تأليف من رأسه؛ ليتصيد الشبهات
ويعرضها للقارئ الذي لا يعرف شيء عن التاريخ الحقيقي لهذا السلطان العظيم.
قبل البدء في الرد أريد عرض نقطتان:
الأولى:
هي سياسية السلطان وطريقة تفكيره لإعادة قوة الدولة مرة أخرى، وهي من كلام
السلطان نفسه في مذكراته وهي نقطة مهمة يُبنى عليها الرد.
الثانية: آراء بعض الأشخاص الذين عرفوا السلطان عبد الحميد على حقيقته منهم العرب ومنهم الأوروپيون، وفيه يثبتون حقيقة السلطان.
يقول السلطان رحمه الله في مذكراته شارحًا وضع الدولة، منذ توليته لعرشها والسياسة التي سعى لتطبيقها طيلة مدة سلطنته : ” كنت
أرى بوضوح أن دول أوروپا العظمى قد أخذت تقسم العالم فيما بينها، وكانت
الممالك العثمانية ضمن الدول التي ستتعرض للانقسام، وكنت لا أستطيع أن أقف
أمام تلك القوى وحدي؛ لم تكن قوتي تكفي، الشيء الوحيد الذي أستطيع فعله هو
الإستفادة من التنافس فيما بينهما، وتوزيع الأمل في لقمة كبيرة بعض الشيء
على كل واحدة منها، والإيقاع بين كل واحدة وأخرى. مرة أخرى كنت أرى بوضوح
أن ظهور ألمانيا كفيل بإخلال التوازن الأوروپي، وأنه سيوقع الدول الأوروپية
بعضها ببعض، وإني لو أستطعت إنقاذ بلادي من التعرض للانقسام حتى ذلك
اليوم؛ فإني في وقت هذا الصدام استطيع حماية وجودنا بالإنضمام إلى أحدى
الكتلتين وكسر الطرف الآخر، ولم أكن أرى هذا ببعيد، وفي نهاية ذلك
سيتصادمون، وبحثت بدقة عن الطريق التي سأسلكها. كنت قد رأيت أثناء مؤتمر الدول الكبرى الذي عقد في إسطنبول
نوايا هذه الدول، وهي ليست كما يقولون تأمين حقوق الرعايا المسيحين، بل
تأمين إستقلالهم الذاتي، ثم العمل على إستقلالهم التام، وبذلك يتم تقسيم
الدولة العثمانية. كانوا يعملون في سبيل ذلك في اتجاهين :
الأول: إثارة الأهالي المسيحين وتعكير صفو الجو وبذلك تتصدى لحمايتهم.
الثاني: المناداة بتطبيق الدستور لإحداث الفرقة فيما بيننا، واستطاعوا أن يجدوا من بيننا أنصارًا يستخدمونهم في كلتا الغايتين.
وللأسف
كان على خبز العدو شيء من السمن، فلم يستطيع بعض الشباب التركي المثقف أن
يفرق بين التطبيق السهل للحكم الدستوري في بلاد تتمتع بوحدة قومية وبين
تعذر هذا الحكم في الدول التي لا تتمتع بوحدة قومية. كيف كان يمكنني أن
أنقذ بلادي من هذه الخيانات والتمردات؟ أسرعت بتجهيز الجيش بالأسلحة
الحديثة وما هو مناسب من أسطول وتدريب الجنود على فنون الحرب. واستدعيت إلى
إسطنبول القائد الكبير “فوندر گولتس“.
ورأيت أنني لو أتفقت مع دولة تسود البحار في هذه الحرب التي أتوقعها
[الحرب العالمية الأولى] – ولي أمل في قيامها – في ذلك الحين تكون جيوشي
مستعدة للعمل. وسيقوم أسطولي بتسهيل مهمتي، وفوق هذا سيكون تحت يدي جيش
يجيد تمامًا حيل الحرب التي تلجأ إليها الأمم التي سأحارب ضدها. نعم لم تكن
لدي الطاقة ولا القوة لمحاربة الدول الأوروپية بمفردي ولكن الدول الكبرى
التي تحكم شعوبنا المسلمة كثيرة في آسيا مثل: إنگلترا وروسيا، تخاف من مقام
الخلافة، لهذا السبب استطاعوا الاتفاق على إنهاء الدولة العثمانية، وكان
عليّ ألا أستخدم هذا السلاح خارج حدودي حتى اليوم المنتظر[يقصد السلطان
سلاح الخلافة]، وإن محاولة كهذه لم تكن لتفيد إخوتنا في الدين أو تفيد
بلادي. وقررت أن أستخدم قوتي كخليفة في وحدة بلادي وأمنها كما قررت العمل
على سلامة إخواننا في الدين من الخارج ضد كل الاحتمالات.
كانت الخلافة في يدي أمرًا يقلق الإنگليز دومًا ويجعلهم في اضطراب،
فالإنگليز يحكمون مائة وخمسين مليونًا من المسلمين في آسيا، وللخلافة نفوذ
كبيرة على هؤلاء المسلمين. ولإني كنت أعرف ذلك كنت ودون أن أثير شكوك الإنگليز
أُرسل السادة الأشراف وشيوخ الطرق الصوفية والدراويش إلى مسلمي آسيا
الصغرى، وكنت أظهر عناية خاصة بربط مسلمي آسيا بالخلافة ربطًا معنويًا.
لو فرقنا بين أعدائنا الذين أتحدوا على تمزيقنا ثم بقيت لنا قطعة واحدة
لاستطعنا أن نصبح قوة لا تنازع؛ لاستطعنا أن نصبح مرة أخرى أصحاب الكلمة
على العالم بأسره. كان ما سيدعو إلى الصدام في النهاية نتيجة التنافس بين
الدول الكبرى واضحًا جليًا أمام الأعين، إذن كان على الدول العثمانية أن
تعيش بعيدًا عن مخاطر التمزق بقدر ما تستطيع أن تبرز ثقلها يوم الصدام، هذا
هو سر سياستي التي أستمرت 33 عامًا “.
من كلام السلطان تتضح
طريقة تفكيره لإعادة قوة الخلافة العثمانية، فالسلطان يريد تقوية الدولة
عسكريًا وتجهيزها وتطوريها؛ لأنه توقع وكان توقعًا صحيحًا بأن حربًا ستنشب
بين الدول الأوروپية، وهي الحرب العالمية الأولى التي نشبت بعد عزل السلطان
بخمس سنوات فقط، وبانضمامه إلى ألمانيا في الحرب يعلن كخليفة للمسلمين
الجهاد على كل القوى الاستعمارية التي تحتل بلاد المسلمين، مما سيعمل على
هبوب المسلمين الغيورين للدفاع عن بلدانهم.
بالإضافة لكلام
السلطان، فهناك من الوثائق ما يدل على تدينه، واهتمامه بحماية المسلمين
والعمل على النهضة بهم في جميع أنحاء العالم من الهند والصين وروسيا، فمنع
عرض مسرحية تسيء للرسول في فرنسا وفرح المسلمون بهذا الأمر فرحًا كبيرًا،
وأمر بمنع لعبة القمار في كل الممالك العثمانية لانها حرام شرعًا، كما أمر
بشأن عدم ذهاب أبناء المسلمين في بيروت للمدارس الأمريكية والفرنسية وسرعة
الانتهاء من إنشاء المدارس العثمانية حتى لا يفسد اعتقاد أبناء المسلمين،
بالإضافة إلى إرسال حروف المطبعة العثمانية إلى روسيا من أجل تعليم
المسلمين الموجودين في روسيا، وغيرها من الأعمال الكثيرة العظيمة لخدمة
الإسلام والمسلمين، فدائمًا ما كان السلطان يزيل توقيع فرماناته بـ “خادم المسلمين عبد الحميد الثاني“.
أما آراء المنصفين من المسلمين وغير المسلمين أعرض هنا بعض منها، فنبدء بمصطفى كامل پاشا حيث يقول : “السلطان عبد الحميد سيد الحكماء، وقدوة الساسة، وقادة الأمم“، وينضم إليه جمال الدين الأفغاني فيقول: “لو
وُزن مع أربعة من نوابغ رجال العصر، لرجحهم ذكاءً ودهاءً وسياسةً. وأعظم
ما أدهشني ما أعد من خفي الوسائل، وأقصى العوامل، كي لا تتفق أوروپا على
عمل خطير في الممالك العثمانية“، أما أمير الشعراء أحمد شوقي فيقول في قصيدة له مادحًا السلطان: “هنيئا أمير المؤمنين، فإنما نجاتك للدين الحنيف نجاة“.
أما بالنسبة للمنصفين الأوروپين فيقول السير هنري وودز الإنگليزي وهو مشير بالبحرية وعمل مستشارًا بالقصر العثماني في مذكراته عن السلطان:
“بالنسبة
لي، السلطان عبد الحميد خان أحد السلاطين الذين يحتلون موقعًا متميزًا بين
السلاطين العثمانيين جميعًا، فهو من أنجح الحكام الذين تولوا حكم الدولة
العثمانية منذ تأسيسها. كان هادئًا للغاية، يستمع إلى المتخصصين عندما
يناقش مسألة ما. كان عاقلًا ومؤدبًا إبان فترة ولايته للعهد، وآنذاك إذا ما
أتى أي وفد أوروپي إلى إستانبول كانوا يطلبون زيارته. ولو لم يكن السلطان
عبد الحميد خان لما حكمت الدولة إدارة عاقلة، ولانهارت الدولة منذ زمن
بعيد. سدد ديونها الخارجية، وقوى الجيش، وجعل الدولة العثمانية يسعى إلى
صداقتها والإرتباط بها. ولو لم يتم إسقاط السلطان عبد الحميد خان، لما
أندلعت الحرب العالمية الأولى، وإن إفترضنا العكس لكان السلطان سيجعل تركيا
دولة محايدة. أولى إهتمام كبير بالمسلمين في كل أنحاء العالم وربطهم بإستانبول
بالحب والإحترام فقد كان يتواجد بـإستانبول دومًا الآف المسلمين من غير
الترك يسمعون منه ويتلقون عنه الأوامر. أحبه الشعب كثيرًا وكان مخلصًا في
حبه له فقد كانت نداءات الشعب المحب تتعالى حتى عنان السماء قبل عدة أيام
من خلعه هاتفة ‘عاش مولانا السلطان‘ “
أما المستشرق المجري أستاذ اللغة المشهور ورئيس جامعة بوداپست البروفيسور أرمينوس وامبري الذي زار تركيا عام 1890، وبفضل إلمامه الجيد بالتركية حصل على ثقة السلطان وهو يصف السلطان بهذه الأسطر في كتابه فيقول : “إرادة
حديدة، عقل سليم، عيون معبرة مؤثرة، شخصية وخلق وأدب رفيع جدًا يعكس
التربية العثمانية الأصيلة … هذا هو السلطان عبد الحميد. ولا تحسبوا
معلوماته الواسعة تخص الإمبراطورية العثمانية المنهكة، فمعلوماته حول
أوروپا وآسيا وإفريقيا، بل حتى حول أمريكا معلوماته واسعة وهو يراقب عن كثب
جميع الحوادث في هذه الأماكن. كان متواضعاً ورزيناً إلى درجة حيرتني
شخصيًا، وهو لا يجعل جليسه يحس بأنه حاكم وسلطان كما يفعل كل الملوك
الأوروپين في كل مناسبة، متمسك بدينه غاية التمسك، يرعى العلماء ورجال
الدين، ولا ينسى بطريق الروم وبطريق الأرمن من عطاءاته الجزيلة. إن بعض
ساسة أوروپا يريدون أن يصوروا السلطان عبد الحميد عدوًا متعصبًا ضد
المسيحين، وليس هناك إدعاء فارغ أكثر من هذا الادعاء. إنني أستطيع القول
بكل ثقة : إنه إذا استمر الأتراك بالسير في الطريق الذي رسمه هذا السلطان،
وإذا لم يظهر عائق سياسي فإنهم سيسترجعون مجدهم وقوتهم السابقة، وأكثر من
هذا فإنهم سيصلون إلى مستوى الدول الأوروپية في مجال الثقافة والاقتصاد في
مدة قصيرة“
أما السفير الأمريكي المستر س.س. كوكس فيقول في كتابه “مذكرات دبلوماسي” واصفًا السلطان عبد الحميد: “هو
أكثر الحكام الموجودين في العالم عملًا وجدًا واهتمامًا واستقامة ويقطة،
وأنظفهم وجدانًا، يتعامل بصدق وبعدل مع الجميع، وكل كلمة منه تدل على طيبة
قلبه وعلى ذكائه” ويستمر قائلًا: “لقد
درست إصلاحات الأتراك طوال العصور الثلاثة الأخيرة وأقتنعت بأن السلطان –
الذي هو تركي نقي – قادر على إعطاء الدفعة الكافية للتعجيل بالتقدم البطيء
للإصلاحات التركية، وهذه الدفعة ستقدم بلده نحو النور والحرية والمدنية. إن
وجود شخص صافي النية وصريح ومتفهم، ومستعد أن يحصر كله وقته لصالح أمته …
إن وجود مثل هذا الشخص على رأس الدولة العثمانية، لنعمة طيبة مباركة،
فالسلطان ليس شخصًا محبوبًا فقط، بل في الوقت نفسه على دراية واسعة بأمور
الدولة“
ويقول اللورد فيشر الشهير الذي كان قائدًا للاسطول الإنگليزي في مذكراته التي نشرها في جريدة التايمز: “بداخلي
احترام عميق لشخص السلطان عبد الحميد خان، رغم أن سفيرنا لم يشاركني رأيي
هذا. الذين يقفون على جوهر مثل هذه الأمور، لا يترددون في الحكم بأن
السلطان عبد الحميد خان كان الأمهر والأكثر ذكائًا ودبلوماسية من كل أوروپا“
ونختم بقول المسيو بودن وهو عضو فخري بالأكاديمية الفرنسية للموسيقى والآداب فيقول في مؤلفه “الآثار الجليلة الحميدية”:
“ بدأت
الدولة العثمانية ترقى إلى المراتب العليا التي تتحق لها الرقي المادي
والمعنوي في العصر السعيد، عصر السلطان عبد الحميد خان. فالحقيقة إنه منذ
جلوسه على العرش فتح الكثير من المدارس؛ بقصد تعليم الشعب ما ينفعه في
دنياه وآخرته. وبلغت الأمة العثمانية النجيبة رقيها في سرعة ملحوظة. وفي ظل
الرقي المعرفي إنتظمت أيضًا شئون الإدارة والصناعة والتجارة والإدارة
العسكرية. فقد كانت هناك رغبته الواضحة في الا يكون هناك وجود لشبهة أن
الدين الإسلامي يعوق العلم والرقي. فقد تأسست وبنيت العديد من المدارس في
ظرف عدة سنوات في مدن وقصبات الدولة العثمانية. وشيد في فترة قصيرة خط حديد
الروميلي وخط حديد الأناضول. وإنشاء رصيف ميناء إسطنبول أعظم علامة على
جهود هذا السلطان العظيم. والفخر واجب بالفنون والعلوم التي أمر السلطان
بإحيائها من خلال المكتب السلطاني وسائر المدارس العليا الأخرى. وتحديث
الجيش من أعمال ذلك السلطان الكبير وهي حقيقة يعلمها العالم كله “.
___________________________________________________________________
نأتي الآن للشبهات، ففي المقالة الأولى يعرض الكاتب الشبهات الآتية والتي أرد عليها ردًا تفصيليًا:
1- الشبهة: هل
سيتناول المسلسل منشور عبد الحميد الثاني ضد أحمد عرابي بخروجه عن الملة
بينما عرابي يقاتل الانجليز المتقدمين داخل مصر مما ساهم في هزيمته؟
الحقيقة: لتوضيح هذا الأمر يتوجب عرض جزء تاريخي بشيء من التفصيل حتى نصل لنقطة إعلان عصيان عرابي پاشا وعرض أسبابه، لذا قد يطول الرد نسبيًا.
كان
الخديوي إسماعيل خديوي مصر قد نجح في أخذ إمتياز من السلطان عبد العزيز
بتعيين أبنه الأكبر للحكم كوريث له، والأبناء ذات السن الأكبر عمومًا
لوراثة العرش، وبالسماح بالاستدانة من الدول الأجنبية (إنگلترا وفرنسا)،
واستغل هذا الإمتياز فتورط في استدانة مبالغ ضخمة من الخارج بلغت في ظرف
عشر سنين “مائة مليون جنيه ذهبي” وهو دين ضخم جدًا مقابل القوة الشرائية
للجنية الذهبي في ذلك الوقت، ولتقريب المسألة أقول: أن ديون الدولة
العثمانية كلها -بعد جهود عبد الحميد لتخفيضها إلى النصف تقريبًا- تعادل
جملة اقتراضات الخديوي إسماعيل بمفرده!! وهو خديوي على أيالة
مصر العثمانية. أمام هذه الديون الضخمة اضطر إسماعيل إلى طرح أسهم قناة
السويس التي كان يمتلكها للبيع؛ للعمل على تسديد هذا الدين -وإن لم يجد هذا
نفعًا-، وتبلغ حوالي 44% من مجموع أسهم القناة. نجح دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا في شراء هذه الأسهم، مما أثار جنون فرنسا التي قامت بشق القناة، وبسطت بهذا إنگلترا جناحيها على مصر.
وكانت
هذه هي الحجة للتدخل الأجنبي من قبل إنگلترا في شئون مصر الداخلية، وقامت
حكومة إنگلترا بالضغط على الخديوي إسماعيل بشأن إدخال مراقبين أجانب إلى
الحكومة المصرية، ورضخ الخديوي لهذا الضغط وأدخل في وزارته وزيريين
أجنبيين: وزير إنگليزي
للمالية ووزير فرنسي للأشغال، وأخذا يقللان من المصاريف؛ بحجة المحافظة
على حقوق الدائنين، ويتدخلان في قضايا أخرى في الدولة بنفس الحجة. وصل عدد
الجيش في عهد إسماعيل إلى 30,000 ما بين جندي وضابط، فجاء الوزراء الأجانب
فأنزلوا عدد الجنود إلى 11,000 فقط، كما أحالوا حوالي 2,500 ضابط للتقاعد
أي أكثر من نصف الضباط في الجيش؛ بحجة تقليل المصاريف أيضًا، مما ولد
إستياء شديدًا في مصر من قبل الرأي العام، وكان الضباط المصريين هم الأغلب
في اللذين أحيلوا للتقاعد وأبقوا على الضباط الأرناؤوط والأتراك والجركس،
مما حرك المشاعر الوطنية في نفوس الجيش والتفوا حول عرابي.
ونتيجة لإسراف الخديوي وهذا الجو الجديد، قام السلطان عبد الحميد بعزل الخديوي إسماعيل وتعيين أبنه الأكبر وولي العهد محمد توفيق پاشا. ألتف الوطنيين حول عرابي ونجحوا في الضغط على الخديوي بتأليف وزارة وطنية، وتكون وزارة برئاسة محمود سامي البارودي
أحتل فيها عرابي منصب وزير الجهادية (الدفاع). أعجب السلطان عبد الحميد
بحركة أحمد عرابي بك، فأيده بمنحه رتبة مير لواء مع الباشوية، كما منحه
الوسام الحميدي من الدرجة الأولى، وبذلك أصبح أمير اللواء أحمد عرابي پاشا.
سعى
عرابي إلى تقوية الجيش وطرد الموظفين الأجانب من الإدارة المصرية، فأنهى
عمل الموظفين مما أدى لاحتجاج إنگلترا وفرنسا وعرضت فرنسا على إنگلترا القيام بحملة عسكرية موحدة لاحتلال مصر فرفضت إنگلترا؛
لأنها أرادت إبعاد فرنسا عن مصر ذات الأهمية البالغة لها، مما أدي بفرنسا
إلى الدعوى إلى عقد مؤتمر للدول الأوروپية في إسطنبول، وكان قرار هذا
المؤتمر تقديم طلب للدولة العثمانية للقيام بحملة عسكرية من خمسة أو ستة
آلاف جندي خلال ثلاثة أشهر لتأمين الاستقرار في مصر وإعادة الأوضاع لسابق
عهدها.
رفض السلطان هذا الاقتراح، فتم نقده بشدة على أساس أنه ترك مصر وحدها في مواجهة إنگلترا، والحقيقة أن هذا الموقف يوضح حكمة السلطان البالغة،
فكيف لخليفة المسلمين أن يرسل جيوشًا لمحاربة المسلمين المصريين الوطنيين؟
وبعد أن يملأ مصر دمارًا وخرابًا يقوم بتسليمها إلى سيطرة الأجانب مرة
أخرى؟
كان الغرض الخبيث من إرسال قوات عثمانية
إلى مصر هو إضعاف قوة الدولة العثمانية العسكرية التي كانت تعاني في هذا
الوقت من أزمات مالية وعسكرية كبيرة، وفي نفس الوقت العمل على اصطدام الجيش
العثماني بالمصري مما سيؤدي إلى كسر شوكة الجيش المصري والقضاء على الجيش
العثماني الصغير؛ نظرًا لكبر حجم الجيش المصري، فقطع السلطان الطريق على الإنگليز وأفسد عليهم خططهم برفضه، وعلى كل الأحوال فقد كانت إنگلترا تبيت النية لاحتلال مصر كما سيأتي.
تولى عرابي پاشا رئاسة الوزراء بعد ذلك، فأعلنت إنگلترا
-التي كانت تحاول إقتناص أي فرصة للهجوم على مصر- عن تشككها في قدرة حكومة
عرابي على حفظ الأمن للأجانب الموجودين في مصر -وقد أعلنت سابقًا أنها
ستحمي الأجانب في مصر- وانتهزت فرصة تجديد قلاع الإسكندرية
وتقوية استحكاماتها، فأرسلت إلى قائد حامية الإسكندرية إنذارًا بوقف عمليات
التحصين والتجديد وإنزل المدافع الموجودة بها. رفض الخديوي ومجلس الوزراء
هذا مما أدى لضرب الأسطول الإنگليزي للمدينة إلى أن أستسلمت، وأضطر عرابي إلى التحرك بقواته بعيدًا عن المدينة وصولًا إلى كفر الدوار. والنتيجة هي هزيمة عرابي في النهاية في معركة التل الكبير، ونفيه إلى جزيرة سيلان، واحتلال مصر.
كان السلطان يرى أن عرابي مجرد ألعوبة في يد الإنگليز، فأسرع بإرسال كل من درويش پاشا وسيد أسعد أفندي لمصر كي يسديا النصيحة لعرابي بعدم مقاومة الإنگليز
-وقد فشل هذا الوفد في إقناع عرابي وليس المجال هنا لتوضيح الأسباب- لكنه
أصر على المقاومة، ولو كان عرابي قد إنصاع لهذا الأمر لكان أمر احتلال
إنگلترا لمصر قد تأجل على أقل تقدير، ليتدخل السلطان بعد هذا لحل لهذه
المشكلة. فأعلن السلطان على أثر هذا أمر عصيان عرابي.
ولتحليل ما أدى إلى إعلان السلطان لأمر العصيان أقول:
1- يجب القول بأن العداوة بين السلطان عبد الحميد و إنگلترا عداوة بلغت الدرجة الأولى، وكان يشترك مع عرابي في درجة العداوة هذه.
2- كان غرض السلطان عبد الحميد عدم إضاعة مصر من حظيرة الخلافة العثمانية، وبذل ما في وسعه لتحقيق ذلك.
3- إعلان
السلطان لعصيان عرابي قد يكون خطأ من وجهة نظر الكثير -فالسلطان ليس
معصومًا-، ولكن عمق فكر السلطان وضحالة فكر عرابي وإصراره على قتال الإنگليز أضاع الفرصة على السلطان من محاولة استدراك الأمر، فالخطأ خطأ عرابي من الأساس، وأدى في النهاية لسقوط مصر تحت الاحتلال البريطاني.
4- لم يكن أمر العصيان أبدًا بهدف مساندة الإنگليز؛ والذي يشير إليه الكاتب من صيغة سؤاله.
أما شخصية عرابي، فهي تحتاج إعادة دراسة لفحصها ومعرفة أغراضها الحقيقية،
فقد سعى لدى عودته من المنفى عام 1901 إلى إقناع الإنگليز بتنصيبه ملكًا
على مصر وبلاد العرب. وقد أعلن عن نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب. وقد
أثارت تلك المطالبة الخديوي وأنصاره، مما عرض أحمد عرابي لحملة إعلامية
شعواء تتقدمها جريدة اللواء والمجلة المصرية وأمير الشعراء أحمد شوقي
والذي هجاه في 3 قصائد شعرية، حيث جاء في العدد الثاني في 15 يونيو عام
1901 ونشرتها اللواء بتاريخ 11 يوليو 1901 تحت عنوان ” عاد لها عرابي “.
راجع معرفة المصادر.
2- الشبهة: هل
سيتناول المسلسل تعطيله للدستور و الدولة البوليسية التي أسسها و مارست
القتل لكل معارض و من نماذج القتل دس السم للشهيد عبد الرحمن الكواكبي؟
الحقيقة: سيكون الرد هنا أيضًا طويلًا؛ لذا سأقوم بتقسيمه إلى ثلاثة ردود حسب التسلسل الوارد في السؤال، فقبل البدء
بموضوع الدستور أحب التذكير بأن الدولة العثمانية كانت خلافة تحكم
بالشريعة الإسلامية بتطبيق كامل في الجزء الأكبر من عمر دولتها، فكانت
المصدر الأساسي للحكم في مختلف القضايا، فعندما تولى السلطان عبد الحميد
السلطنة وضع في أولوياته موضوع الدستور و المشروطية [الديمقراطية] (الحكم المقيد)؛ وذلك لإصرار الصدر الأعظم حينها -رئيس الوزراء- مدحت پاشا، فطلب من علماء الشريعة وضع دراساتهم لبيان رأي الشرع الشريف (وهو أساس النظام القانوني والاجتماعي) في الدستور و تخويل المجلس بتشريع القوانين في أمور معينة، فكانت الأراء حول محورين:
الأول:
قال بأن إعداد الدستور الذي هو (قوانين السياسة) أو (الأصول) وإطاعة
القوانين التي يصدرها المجلس بشكل متواز مع هذا الدستور يخالف الشرع
الشريف، ويفتح السبيل لقوانين مخالفة للأحكام الشرعية، واستند هذا الرأي
على نقطة مهمة هي غياب شرط الإسلام عن عضوية مجلس الشورى، وقد مثل أمين
الفتوى “قاره خليل أفندي” العلماء الذين ذهبوا على هذا المذهب.
الثاني:
فقال بأن تشكيل مجلس تشريعي بصفة (مجلس الشورى) وإعداد قانون أساسي يُسمى
(الأصول) -المقصود به الدستور- لتنظيم أسسه جائز شرعًا؛ بشرط البقاء في
دائرة حق التشريع المسموح به لأولو الأمر وفقًا للشريعة الإسلامية، وكان من
مناصري الفكرة العالم الشهير بديع الزمان النورسي، كما أرسل من الأزهر
علماء الشريعة على المذاهب الأربعة مذكرة إلى السلطان عبد الحميد تأييدًا
للمجلس الذي يمثل قلب الأمة.
أعتمد السلطان الرأي
الثاني اقتباسًا من أهل الحل والعقد، وسمح بإعلان القانون الأساسي
-الدستور- وذلك في عام 1876، فصار الحكم في الدولة العثمانية نظامًا مقيدًا
وأٌقر لأول مرة مجلس تشريعي يناط به سن القوانين في إطار التشريع العرفي.
وفي عام 1878 أٌلغيت أحكام القانون الأساسي، وعُطّل المجلس العمومي المشكل
بموجبه؛ لأنهما لم يثمرا بالثمار المنتظرة منهما. وكان السبب في تعطيل
المجلس والدستور هي النكبة القادمة من المجلس -الذي كان أغلب أعضائه والممثلين لجنسيات غير تركية تحكمها الدولة العثمانية مدسوسين من الدول الأوروپية، حيث يطالب جزء كبير منهم بالانفصال عن الدولة وتكوين كيانات مستقلة- والتي قادها مدحت پاشا ورفاقه في المجلس إلى الدولة العثمانية بعد أخذ أغلبية في البرلمان بدخول حرب مع روسيا عام 1877
المسماة بحرب 93 و كانت تضم (الإمبراطورية الروسية وصربيا ورومانيا والجبل
الأسود ومتطوعين بلغار) ضد (الدولة العثمانية) ونتج عنها خسائر في
الأراضي وخسائر مالية ضخمة جدًا، ولعل الإبقاء على المجلس في تلك الظروف
كاد أن يؤدي إلى ضياع أراضي الجمهورية التركية الحالية من المسلمين الأتراك
أو إلى اضطرار القوى الملية (القوات الشعبية في حرب الإستقلال) للدفاع عن
قونية وسيواس بدلًا عن إسطنبول وأزمير، فهزيمة الجيش العثماني في مواقع
متعددة في هذه الحرب أدى إلى اتجاه الجيش الروسي جنوبًا لدرجة أنه كان على
مقربة حوالي 50 كيلومترًا فقط من عاصمة الخلافة إسطنبول. وأذكر قول بسمارك السياسي البروسي الألماني الشهير عن هذا المجلس والذي ساند عمل السلطان: “من الواضح أن ضرر البرلمان أكثر من نفعه في دولة شعبها غير موحد.“، ولذلك أزعج قرار الحل إنگلترا وفرنسا المساندتين لإقامة دولة أرمينية ودول مستقلة أخرى للطوائف المتنوعة.
لقد خضع
السلطان لمتطلبات التاريخ بإغلاق المجلس وإدارة الدولة بنفسه، فأطال
عُمر الدولة ثلاثين أو أربعين سنة وسط أزمات عاصفة في الداخل والخارج، فهل
هذا المجلس في مصلحة دولة الخلافة، أم هو طريقة سريعة لهدمها؟
أما عن الدولة البوليسية التي أسّسها أو جهاز المخابرات الذي أسسه السلطان، فأترك الرد فيه للسلطان نفسه من مذكراته، فيقول مبينًا الغرض منه: “حسب
العرف العثماني، يتعرف السلطان على تفكير الرعية وشكواها عن طريق جهاز
الحكم، من ولاته وقضاته من جانب، وعن طريق التكايا المنتشرة في ربوع البلاد
بمشايخها ودراويشها من جانب آخر، فيجمع كل هذه الأخبار ويدير البناء
عليها. جدّي السلطان محمود الثاني وسع دائرة مخابراته بإضافة الدراويش الرحل إليها. كان ذلك عندما ارتقى العرش، وعلى ذلك استمر. علمت ذات يوم من موسوروس پاشا، سفيرنا في لندن، أن الصدر الأعظم السابق، السَرْ عسكر حسين عوني پاشا تسلم نقودًا من الانگليز. إذا كان الصدر الاعظم
وهو يحكم البلاد باسم السلطان يخون دولته، فإن مخابراته لابد أن تبلغ
القصر على أنه يؤدي عمله على الوجه الأكمل، لذلك تكدرت وتأثرت في أثناء تلك
الأيام قابلني محمود باشا، وأدلى إلي ببعض معلومات عن بعض أعضاء تركيا الفتاة،
وكانت الاخبار التي قدمها لي هامة. سألته عن طريق حصوله عليها، فعرفت أنه
أنشأ مخابرات خاصة، واحتوى -بالنقود- أقاربًا لبعض الأشخاص من “تركيا
الفتاة”، وهؤلاء كانوا يقابلون أقاربهم ويسمعون منهم ثم يخبرونه فيدفع لهم.
صحيح أنه زوج أختي، إلا أنه لا يصح أن يقيم أحد پاشوات الدولة مخابرات
مستقلة عن مخابرات الدولة. قلت له أن يحل جهازه هذا فورًا، وألا يعاود
العمل بمثل هذا الأمر مرة أخرى، أحال إليّ جهازه هذا، وهو متضايق كثيرًا.
لا يمكن للدولة أن تكون آمنة، إذا تمكنت الدول الكبرى أن تجند لخدمة أهدافها
أشخاصاً في درجة وزير أعظم. بناءً على هذا قررت إنشاء جهاز مخابرات يرتبط
بشخصي مباشرة، وهذا هو الجهاز الذي يسميه أعدائي بالجورنالجية (الشرطة
السرية = المخابرات)، وكان ضروريًا أن أعرف أن بين أعضاء جهاز الجورنالجية
(المخابرات) المخلصين الحقيقيين أشخاصاً مفترين، لكني لم أصدق ولم آخذ بأي
شيء يأتي من هذا الجهاز مطلقًا دون تحقق دقيق. كان جدّي السلطان سليم يصيح
قائلًا: “إن أيدي الأجانب تتجول فوق كبدي، وعلينا أن نرسل السفراء الى
الدول الأجنبية لنقل أساليب التقدم الأوروپي وعلينا إرسال الرسل إلى
الخارج، ولنعمل سريعًا على تعلّم ما وصلوا إليه”. كنت أحس أنا أيضًا بأيدي
هؤلاء الأجانب، ليست فوق كبدي، وإنما في داخله. إنهم يشترون صدوري العظام
ووزرائي ويستخدمونهم ضد بلادي. كيف يحدث هذا وهم الذين أنفقت عليهم من
خزانة الدولة ولا أستطيع معرفة ما يعملونه وما يديرون ويعدون؟ نعم، أنا
أسست جهاز الجورنالجيه (المخابرات)، وأنا أدرته، لكن متى حدث هذا؟ بعد أن
رأيت صدوري العظام يرتشون من الدول الأجنبية مقابل هدم دولتهم والتآمر على
سلطانهم. أسست هذا الجهاز لا ليكون أداة ضد المواطن، ولكن لكي يعرف ويتعقب
هؤلاء الذين خانوا دولتي، في الوقت الذي كانوا يتسلمون فيه رواتبهم من
خزانتها، وفي الوقت الذي كانت النعمة العثمانية تملؤهم حتى حُلُوقهم“.
ومن
أمثلة فوائد جهاز المخابرات أنه كان مثيرو الشغب والإرهابيون يثيرون
الأرمن للتمرد ضد الدولة العثمانية، فكان الجنود يتصدون لهم وتُراق دماء
كثيرة … كان جهاز السلطان عبد الحميد -خلال ثلاثين سنة- يخبر السلطان فور
ظهور كل حركة ولذلك تمكن السلطان من إخماد كل تمرد داخلي في حينه. وللأمانة
التاريخية، فإنه مع طول حكم السلطان الذي وصل إلى 33 عامًا للدولة، نتج في
نهاية عهد السلطان تجاوزات من هذا الجهاز، شأنه شأن أي جهاز بوليسي في أي
دولة، ولكنه لم يكن أبدًا موجه ضد الشعب أو للعمل على قتل المعارضين كما
يزعم الكاتب.
كان السلطان عبد الحميد دمويًا !!! حسنًا أين هي الأمثلة -الأسماء- التي تقول عنها والذين قام بقتلهم السلطان؟ هل تقصد مدحت پاشا -رئيس الوزراء الذي ذُكر في الفقرة الأولى من الشبهة- الخائن أحد عملاء الإنگليز
الذي كان له يد في قتل السلطان عبد العزيز أم من؟ لم يُعرف عن السلطان حبه
للحروب أو القتل أو سفك الدماء بل عُرف برحمته التي حاول أعدائه تشويها،
ولم يقم السلطان في تاريخه كله في خدمة الدولة، بالتصديق على تنفيذ حكم الإعدام إلا أحد عشر مرة:
الأولى:
حين أطلق أحد رؤساء الخدم النار على منافس له بعد وقوع شجار بينهما داخل
القصر السلطاني وكانت في نية السلطان تبديل حكم الإعدام إلى السجن ولكن شيخ
الإسلام تدخل قائلًا للسلطان إن لم يعدم هذا فلن يكون هناك قوة رادعة في
هذه الدولة.
الثانية:
عندما قتل شخص أبيه وأمه فتم إعدامه، ومثبت في وثائق أرشيف قصر يلدز أكثر
من 100 حادثة تم الحكم عليها بالإعدام وحولها السلطان كلها للسجن. ومن أشهر أمثلة تخفيف حكم الإعدام حادثة مدحت پاشا الذي اعترف بتورطه في قتل السلطان عبد العزيز، فحكم عليه بالإعدام وتدخل السلطان لتخفيف الحكم إلى السجن،
ولو كان السلطان يريد قتله لوافق على تنفيذ الحكم فيه بدل من إرساله لسجن
الحجاز- وأمر السلطان بصرف مرتبه لأسرته بصورة منتظمة – أما مسألة قتله
بداخل السجن فهي بعيدة تمام البعد عن السلطان، ومن المعروف ومثبت تاريخيًا
أن هناك عميل إنگليزي حاول تهريب مدحت پاشا من سجن الطائف على متن باخرة إنگليزية ولكنه فشل. إضافة لهذا
نجد الإرهابي المحترف صانع المتفجرات البلجيكي المسمى “إدوارد يوريس” الذي
قام بتصنيع القنبلة الموقوتة التي حاول بها الأرمن بالإتفاق معه قتل
السلطان بعد خروجه من صلاة الجمعة، والتي انفجرت في عربة تقف بجوار عربة
السلطان قبل وصوله لعربته، والذي أعترف بتهمته أمام المحكمة في أنه من قام
بهذه العملية، وحكم عليه بالإعدام، فتدخل السلطان وقام بتخفيض الحكم من
الإعدام إلى النفي خارج البلاد فقط. أما إدعاء الكاتب بشأن دس السم لعبد الرحمن الكواكبي فلا يوجد دليل على أن السلطان عبد الحميد قتله، بل كان له أعدائه في مصر، ونسب عملية القتل للسلطان خزعبلة مريضة.
3- الشبهة: هل
سيتناول المسلسل دور عبد الحميد الثاني في تسليم الاقتصاد العثماني
لأوروبا عبر صندوق الدين العثماني الذي وافق على تأسيسه ليسيطر على موارد
البلاد و يدس وزراء أجانب في الحكومة؟
الحقيقة: من يقرء هذا السؤال يظن أن السلطان كان خائنًا لدولته. شيء يدعو للضحك
الحقيقة
إن مشكلة الديون هذه هي من أحد المشاكل العويصة التي ورثها السلطان عبد
الحميد، بل ربما هل أكبر مشكلة واجهته منذ توليه السلطنة، فقد تفاقمت هذه
الديون بصورة كبيرة منذ العهد الأخير لعمه عبد العزيز؛ فكانت النسبة العظمى
من الديون هي ديون لإنگلترا وفرنسا، وكانت هذه الديون مع فوائدها تشكل
نزيفًا مستمرًا لخزانة الدولة. وعندما عجزت الدولة العثمانية عن تسديد ما
عليها من أقساط عام 1875 أعلن ما يسمى بإفلاس الدولة العثمانية فأصبحت
الدول وبيوت المال ترفض إقراضها. جاءت الحرب العثمانية الروسية 1877-1878 -التي أقحم فيها مدحت پاشا الدولة العثمانية-
بعد ذلك فقضت على البقية الباقية لقدرة الدولة المالية، حيث أضافت على
كاهلها آثار حرب باهظة، بالإضافة لمصاريف هائلة أثناء تلك الحرب. كان
السلطان طوال فترة حكمه يرفض دائمًا المراقبة السياسية الأوروپية التي
تُمارس على الدولة العثمانية، وبذل جهده في تطبيق سياسة مستقلة، وكان يعلم
مدى خطورة هذه الديون على الدولة، فهي حجة قوية لتدخل الدول الأوروپية
الدائنة في شئون الدولة، وبعد فترة أهتدى السلطان لحل لهذه المشكلة، فكانت
أول قرارته في نوفمبر 1879 توصل فيه إلى إنفاق بين رجال بنك الدولة “گلاطة”
وممثلي البنك العثماني، وأعلن مرسوم باسم “الرسوم الستة”؛ لأداء مبلغ
مليون و350 ألف ليرة بأن تكون حاصلات رسوم كل من واردات (
الطوابع المالية – المسكرات – الملح – السمك – الحرير – التبغ) لأداء
الديون الخارجية وذلك بشكل مستمر. أصدر السلطان كخطوة ثانية فرمان يسمى
“فرمان المحرم” في 1881، شكلت بمقتضاه “لجنة إدارة الديون العمومية”، هذه
اللجنة تتكون من سبعة أعضاء تمثل الجهات الدائنة، وعمل السلطان على التفاوض
مع ممثلي هذه الجهات الدائنة، واستطاع بفضل هذه اللجنة تخفيض ديون الدولة
البالغة حينذاك -مع فوائدها- 252,801 مليون ليرة إلى 106,437 مليون ليرة،
أي أكثر من النصف، كما تم تخفيض الفوائد إلى 1% فقط، وأصبحت الديون تُدفع
بصورة منتظمة للدائنين، فكانت هذه المؤسسة بمثابة وزارة مالية ثانية، لا شك
أن هذه الإدارة كانت تأخذ جزء كبير من عائدات الدولة، وكانت الدولة تمر
بفترات من الأزمات مالية، حيث لا يستلم الموظفون مرتباتهم في بعض الأحيان
إلا كل شهرين. ومع نهاية عهد السلطان كان قد سدد الجزء الأكبر من الديون
وهو ما يقرب من ثلاثة أرباعها، وبهذه الخطوة استطاع السلطان إزالة عامل مهم
من عوامل التدخل في شئون الدولة. نختم بقول السلطان وهو يتحدث عن مسألة الديون: “عندما
توليت العرش كانت ديوننا تقترب من ثلاثمائة مليون ليرة، وفّقت إلى تخفيضها
إلى ثلاثين مليون ليرة، أي إلى العشر، وذلك بعد دفع ما تطلبته حربان
كبيرتان وسحق بعض تمردات داخلية، أما ناظم بك ورفاقه فقد رفعوا هذا الرقم
[بعد تولي "الاتحاد والترقي" الحكم بعدي]، من ثلاثين مليون ليرة إلى
أربعمائة مليون ليرة، يعني إلى ثلاثة عشر أمثاله!!“
يتضح من هذه الأدلة صدق
السلطان ورغبته في إزالة نير الديون الضخم عن كاهل الدولة، فهل كان لتأسيس
السلطان لمؤسسة الديون العمومية بغرض تسهيل التدخل الأجنبي في شئون الدولة
كما يزعم الكاتب؟؟
4- الشبهة: هل سيذكر المسلسل أن عبد الحميد الثاني منع وجود سفن عسكرية عثمانية في المضايق الهامة البوسفور و الدردنيل تجنباً لغضب أوروپا معرضاً بلاده للخطر؟
الحقيقة:
هذه الشبهة وشبهة أخرى تقول بأن السلطان أهمل الأسطول شائعتان دون وجود
دليل على صحة هذا الكلام، فالأسطول الذي شُيد في عهد أبيه السلطان عبد المجيد وطُور بصورة كبيرة في عهد عمه السلطان عبد العزيز قد سُحب إلى خليج القرن الذهبي من
قبل السلطان عبد الحميد، و كان ترك السلطان عبد الحميد الأسطول معطلًا من
أهم أوجه النقد والإتهام التي ألصقت به، والسبب والدافع لقيام السلطان بهذا
العمل ليس تجنبه لغضب أوروپا كما يزعم الكاتب؛ وإنما سيطرة القواد
الإنگليز على الأسطول، فقادة الأسطول جلهم من الإنگليز الذين هم العدو
الأول للسلطان وللدولة، ولم يخرج الأسطول من الخليج قط حتى إعلان الحرب
التركية اليونانية، وأخرج الأسطول في هذه الحرب بناء على أمر من السلطان،
بيد أنه منعه من الإبحار أو الاشتراك في الحرب بسفنه المعطلة الفاسدة.
وأترك الدفاع للسلطان نفسه الذي يذكر في مذكراته الشخصية السبب وراء سحبه
للأسطول: “ومقابل هذا، أظهرت هذه الحرب (الحرب العثمانية الروسية)
أن الأسطول لم يكن فعالًا رغم كثرة عدده. ربابنة سفننا كلها تقريبًا كانوا
من الإنگليز، يعني أن اسطولنا كان في يد الإنگليز. عندما أردنا تغير بعض
ربابنة هذه السفن، هرع السفير الإنگليزي إلى القصر، ولم يخجل من التحدث
بصراحة وأن يعلق على هذه المحاولة بشكل لا يجعلنا نثق في إنگلترا. على هذا
يمكن القول بأنه لم يكن لدينا أسطول، إنه يستعدي علينا إنگلترا وفرنسا من
ناحية، ولم يثبت فعاليته في أي عمل في الحرب من ناحية أخرى، ولا يعقل
المحافظة على شيء قديم عديم الفائدة ينتج عنه ضرر. أمرت بسحب الأسطول إلى
الخليج وهكذا أفهمت الفرنسيين والإنگليز أنه ليس لدينا النية أن ننافسهم في
البحر الأبيض، والحقيقة أن هذا التصرف جعل الإنگليز والفرنسيين يبتعدون عن
التصادم بنا لفترة طويلة. في مقابل هذا، أسرعت بتجيهز الجيش بالأسلحة
الحديثة وإعداده بما هو مناسب من أسطول وفنون الحرب المتطورة. واستدعيت إلى استانبول الضابط [الألماني] الكبير “كولمار فون در گولتس“.
إني لو أتحدت مع دولة تسود البحار في الحرب التي أتوقعها ولي أمل في
قيامها -يقصد السلطان الحرب العالمية الأولى- في ذلك الحين تكون جيوشي
مستعدة للعمل، وسيقوم أسطولي بتسهيل مهمتي، وفوق هذا سيكون تحت يدي جيش
يجيد تمامًا حيل الحرب التي تلجأ إليها الأمم التي سأحارب ضدها.“بالإضافة
لكلام السلطان، فلا يوجد أي دليل يثبت بأن الأسطول في عهد عبد الحميد
أُهمل، بل على العكس فالأدلة كثيرة وتدل على قيام السطان بتطويره وسداد
ديون سفن حربية تم شرائها حتى قبل توليه السلطنة، وقد أضيف في عهده بوارج كثيرة وغواصتان، الغواصة عبد الحميد وهي
أول غواصة في العالم تطلق طوربيد من تحت سطح الماء، والغواصة عبد المجيد،
وكان سلاح الغواصات ما زال حديثًا، إضافة لهذا فقد دفع السلطان من ماله
الخاص تكاليف تجارب بناء الغواصات في إسطنبول. ارتفعت عدد السفن الحربية
المتبقية منذ عهد السلطان عبد العزيز من 39 سفينة إلى 85 سفينة حربية و 79 سفينة مساعدة في عهد السلطان عبد الحميد، وكانت تتكون ما بين سفن حربية وفرقاطات مدرعة
( فرقاطة المسعودية التي جهزت بأحدث الأسلحة والآلات، فرقاطة الحميدية،
وفرقاطة معين الظفر وفرقاطة الأورخانية، فرقاطة العزيزية ) وطرادات ( طراد المنصورة، وطراد حفظ الرحمن، وطراد هيبة النعمة ) وعوامات و حاملات طوربيد، وقد أستخدمت هذه السفن في حروب البلقان والحرب العالمية الأولى بل وفي حرب الإستقلال.
أمر السلطان بإرسال كثير من السفن الحربية للإصلاح خارج البلاد لأول مرة
بعد انقضاء عصر عمه عبد العزيز، وتم تصنيع جزء آخر من السفن في ترسانات
داخل البلاد، وأصبح الطراد المسمى “حامدية” كالأسطورة على ألسنة الناس؛
بسبب المعارك الناجحة عام 1912 وكانت الأوامر التي أصدرها عبد الحميد في
هذا الصدد تنص على الآتي :
1- إرسال
الطراد الحربي ” حامدية ” وكذلك الطراد ” داراما ” إلى إيطاليا، أما
الطرادان ” بيركي ستوفت ” و ” بيكي شوكت ” فيتم إرسالهما إلى ألمانيا.
2- إرسال 4 قوارب من طراز “سامون” إلى فرنسا وترسل إلى إيطاليا مرة أخرى قاربان طوربيد واحد يسمى “عبد المجيد” والآخر يسمى “يونس”.
3- يُرسل إلى ألمانيا 4 قوارب طوربيد من طراز “فاتح” و 5 قوارب طوربيد من طراز “يتر ظفر” أي سهم النصر.
4- يرسل
8 قوارب طوربيد من طراز “نعمة” إلى فرنسا، بالإضافة إلى 213 سفينة مدفعية،
وتم إعداد كل هذه السفن الحربية وإصلاحها على الوجه الأمثل ثم عادت مرة
ثانية إلى الدولة.
كان
الفضل لله ثم للسلطان عبد الحميد في القيام بهذا الواجب الوطني في تحديث
الأسطول وتطويره وفق أحدث التكنولوجيا، وهو يستحق كل ثناء وتقدير للسلطان،
ولو لم يرد تطوير الأسطول لكان ظل على تركه ملقى في الخليج، وأعتقد أن هذا
يكفي للرد.
5- الشبهة: هل
سيذكر المسلسل أن عبد الحميد الثاني أهمل الجيش حتى تردت أحواله لدرجة أن
الجيش فشل في صد هجوم مستعمراته السابقة بلغاريا و اليونان و صربيا و
مقدونيا في حرب البلقان الأولى بالعام 1912؟
الحقيقة: من ضمن الإرث الثقيل الذي ورثه السلطان عبد الحميد أرث الجيش، فبعد الحرب العثمانية الروسية 1877-1878
التي مُنيت بها الدولة العثمانية بهزيمة كبيرة مع فقدان الكثير من الأراضي
وخسائر مالية باهظة، عمل السلطان على تقوية الجيش وسد حاجاته، وزيادة
تسليحه وتعليم الضباط الأصول الحديثة للحرب. فأمر بتحديث الجيش وتقويته أمر
أساسي وإن أرهق هذا خزانة الدولة المثقلة بالديون، لذا اتبع سياسة اقتصادية
تقشفية ووجه جزءًا كبيرًا من إمكانيات الدولة لتقوية الجيش للدفاع عن
الدولة ضد أعدائها، فأمر بتأسيس “لجنة التجهيزات العسكرية” (التي أصبحت بعد
ذلك نظارة هامة جدًا وقام بإلغائها الاتحاديين)، وقد أفادت تلك اللجنة
إفادات عظيمة في تلبية حاجة الجيش من الأسلحة والمعدات البرية والبحرية، من
تزويده بالرصاص والبارود والمدافع والإسهام في تقديم المساعدات اللازمة
التي تجاوزت مئات الآلاف من الليرات في صناعة السفن الحربية الحديثة
والمدافع في المعامل العثمانية.
وأقول أن السلطان بذل
جهودًا مضنية في سبيل تقوية الجنود وتعليمهم وتجهيزهم، فبعد أن وجد السياسة
الداخلية والعلاقات الدولية لصالحه، شرع في وضع خطة تحديثية شاملة للجيش،
فخدمات السلطان في الساحة العسكرية جديرة بالتقدير والاحترام، ويمكن أن
أذكر منها في نقاط:
1- العمل على زيادة المدارس الابتدائية والإعدادية العسكرية.
2- إصلاح الكثير من المؤسسات العسكرية وتجديدها واستحداث العديد منها.
3- تأسيس مدرسة التدريبات الطبية العسكرية عام 1898 بـ”كلخانة”، وهي مدرسة لا نظير لها إلا ڤيينا؛
بغية قيام الطلاب المتخرجون منها بقضاء فترة تدريبهم بها واكتساب الخبرات
اللازمة وأصبح هؤلاء الطلاب أطباء يقومون بالتدريس في كلية الطب بعد ذلك .
4- استقدام معلمين
أكفاء من ألمانيا من أجل المدرسة الحربية، كما استعان بالضباط الألمان
لتدريب الجيش العثماني؛ وذلك بإرسال الطلاب والضباط العثمانيين إلى ألمانيا ليتعلموا فيها الاصطلاحات العسكرية ونظم الجيش الحديثة.
5- أولى اهتمامًا بسلاح المدفعية وجعله في مستوى فرقة.
6- زود الجيش بالكثير من البنادق وفئات المدافع سريعة الطلقات.
7- ربي وأعد في
عهده كل ضباط الجيش وقادة الكفاح الوطني الذين خاضوا حروب البلقان والحرب
العالمية الأولى ومنهم من حقق النصر في حرب الاستقلال.
8- قام بتقوية استحكامات مضيق إسطنبول، وچناق قلعه
[الدردنيل] و. وقد دافعت “چناق قلعه” عن نفسها واستطاعت إحراز النصر في
الحرب العالمية الأولى ضد الجيش البريطاني وحلفائه بفضل التعزيزات التي قام
بها السلطان.
أما عدد الجيش في عهد
السلطان في أراضي الدولة العثمانية فكان يصل إلى حوالي مليون جندي تحت
السلاح، وكان ينقسم إلى سبعة جيوش ويتألف كل جيش من فرقتين أصليتين وفرقتين
احتياط وفرقتين للحراسة. وفرقة فرسان وفرقة مدفعية، وكان يتكون من وحدات
نظامية ووحدات خيالة، وكان الجيش في حالة الحرب يمكنه أن يرتفع إلى 19 وحدة
نظامية و20 احتياطية، و10 مستحفظان، 49 مشاه، 7 خيالة، و5 فرق مدفعية،
بالإضافة إلى 3 ألوية (الآي) خيالة مستقلة، 3 ألوية مدفعية، وطابور مدفعية،
ونجح جزء من الجيش بناء على التنظيمات السابقة في هزيمة اليونان، وذلك في فترة قصيرة لا تتجاوز شهرًا.
أما ما تعرضت له الدولة من هزيمة في حرب البلقان الأولى أدت لفقدها كل أراضيها تقريبًا
في أوروپا، فلم يكن تقصيرًا من السلطان، فقد جهّز السلطان وأعدّ الجيش
والأسطول بأحدث التسليحات وأتم تدريب الجيش على أكمل وجه، الهزيمة جاءت من
عصابة الاتحاد والترقي بعد تقلدها أمور الدولة، التي أخذت تتهاوى أمام
الحماقات التي كانت يتخذها قادتها، وفي سنوات معدودات هدمت ما بناه السلطان
في 3 عقود، فكانت نهاية الدولة على يديها، فلعنة الله على كل خائن .
___________________________________________________________________
___________________________________________________________________
“الله“ هي
آخر كلمة نطق بها السلطان عبد الحميد بقوة قبل أن يسقط فنجان القهوة من
يديه، وتفيض روحه إلى بارئها، فنسأل الله له الفردوس الأعلى اللهم آمين.
أختم وأقول بأني قمت
بهذا العمل الطويل للرد على الشبهات وتفنيدها؛ لإثبات أنها كلها عبارة عن
أكاذيب تستقر في رأس حاقد، وللقول بأن كل مسلم يجب عليه الفخر بتاريخ
السلطان رحمه الله، كما أرى أن على كل مسلم العمل على قراءة ودراسة سيرة
حياته ليستفيد منها، فهو واحد من خلفاء الدولة الإسلامية المميزين والعظام،
فأدعو الله أن يجمعنا نحن المسلمين معه في الجنة.
___________________________________________________________________________________
المصادر المُعتمد عليها :
1- السلطان
عبد الحميد خان الثاني المفترى عليه، دارسة من خلال الوثائق، عمر فاروق
يلماز، ترجمة طارق عبد الجليل السيد، مراجعة أ . د الصفصافي أحمد المرسي،
دار نشر عثمانلي – إسطنبول
2- السلطان
عبد الحميد الثاني شخصيته وسياسته، سليمان قوجه باش، ترجمة عبد الله أحمد
إبراهيم، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2008
3- مذكرات السلطان عبد الحميد، تقديم وترجمة الدكتور محمد حرب، دار القلم، 1991
4- السلطان عبد الحميد الثاني حياته وأحداث عهده، أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الرابعة، 2008
5- الدولة
العثمانية المجهولة، 303 سؤال وجواب توضح حقائق غائبة عن الدولة
العثمانية، أحمد آق گوندوز، سعيد أوزتورك، وقف البحوث العثمانية، 2008
الله يعطيك العافية بس بدنا وقت نقرائها كلها
ردحذفخذ وقتك :)
ردحذفجزاك الله خيرا ... لقد أوجزت و لكن لي ملاحظة واحدة ... في صدر مقالتك أسقطت سهواً ذكر الدولة المملوكية في سياق الحديث عن التاريخ الطويل للأمة الإسلامية
ردحذفأعلم أن كثيرا من الناس يقعوا في هذا "النسيان" و لا ألومهم لكثرة التشويه لهؤلاء الأفذاذ - المماليك- الذين قضوا على أخر معاقل الصليبيين في بلاد الإسلام و الذين بذلوا جهدهم في الحفاظ على الخلافة العباسية في القاهرة بعد سقوطها ... و لهم الكثير من الأيادي البضاء على المسلمين في حروبهم الطويلة ضد المغول و الصليبيين
شكراً مرة أخرى على المقال الممتاز ... و ننتظر المزيد :)
في الحقيقة أنا لم أسقطها، لأني أذكر الدول التي حكم فيها خلفاء، وعهد المماليك اسميا كانت مصر تابعة للخلافة العباسية، على ما للماليك من تاريخ عظيم.
ردحذفأنصحك بهذه الصفحة بخصوص المماليك: https://www.facebook.com/pages/Egyptian-Mamluks%D8%A3%D8%B1%D8%B6%D9%8F-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%83/369442683136867
شكراً جزيلاً ... مش ملاحقين على جمايلك
حذفالعفو :)
حذفالمشكله اننا امة لا تقرأ لذلك تجد الكثيريين يجهلون تاريخهم وهنا الكارثه اذ لا يعرفون احيانا اعدائهم ولا ماينبغي فعله معهم لذلك التاريخ مهم جدا جدا
ردحذف