الخميس، 26 ديسمبر 2013

مصر في العهد العثماني: العلوم اللغوية (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
العلوم العربية والأدبية:
وقد لقيت هذه العلوم اهتمامًا بالغًا من قبل القائمين على الحركة العلمية والتعليمية، حيث جاءت في المرتبة الثانية مباشرة بعد الاهتمام بالعلوم الدينية، حيث أتحدث عن البلاغة والمعاجم في هذا الجزء فقط.

البلاغة:
يمكن تعريف علم البلاغة بـ "تأدية المعنى الجليل واضحًا بعبارة صحيحة، تأسر النفوس والوجدان، مع ملاءمتها للموطن الذي يقال فيه، وحال الأشخاص الذين يُخاطبون". ولقد مر هذا العلم منذ تكوينه بعده أطوار مثله في ذلك مثل باقي العلوم اللسانية الأخرى، وبعيدا عن الخوض في هذه الأطوار، نجد أن أكثرها تأثيرا على المهتمين بعلم البلاغة، وخاصة في العصر العثماني طور التلخيص للكتب التي وصل العلم فيها إلى اكتماله، وكان أول من دفعها في هذا الاتجاه الإمام الفخر الرازي، الذي لخص كتاب الجرجاني "دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة"، مفيدا من "كشاف" الزمخشري وغيرها.

خلف الفخر الرازي، الإمام السكاكي، في القسم الثالث من كتابه "مفتاح العلوم"، حيث قام بوضع علمي المعاني والبيان في صيغتهما النهائية التي استقرت بعد ذلك على مدار العصور، ولقد أعتُبر هذا الكتاب النهاية التي وصل إليها علم البلاغة، لذا كل من أتى بعد السكاكي، لم يقم بالمشاركة في هذا العلم إلا بشرح الكتاب أو تلخيصه وتعليق الحواشي عليه.
وبنظرة فاحصة للتراث العثماني، نجد أن علماء تلك الفترة قد اختصوا علم البلاغة بمزيد من الاهتمام، فمن ناحية أقبل العلماء على دراسته والتزود منه بداية بحفظ أهم المتون، ثم تعلمه على يد المتخصصين. ومن ناحية أخرى عملوا على إفراد جزءا من مكتباتهم لأمهات كتب البلاغة، حيث كانوا حريصين على اقتناء كتب هذا العلم، وجعلها من أهم الكتب التي تحتويها مكتباتهم، مثل ما نراه في مكتبة الشيخ "محمد سعد الدين المرحومي" (1592 - 1662)، حيث أحتوت على أكثر من 10 كتب أو نسخ تتحدث عن هذا العلم كأساس البلاغة، ومتن المفتاح، وشروحه، وحاشية عليه، وغيره.

ويلاحظ أن أكثر من الطوائف الاجتماعية التي اختمت بإقتناء كتب البلاغة وقراءتها، أفرد سادات بني الوفا الصوفية، ويظهر هذا جليا من مكتبة الشيخ "عبد الوهاب أبو النخصيص بني وفا" (ت1678) التي أحتوت على أكثر من 6 كتب في البلاغة، وكذلك مكتبة الشيخ "زين الدين عبد الرزاق أبو العطا بني الوفا" (ت1685)، التي ضمت أكثر من 7 كتب حول هذا العلم.

أما عن قدر مشاركة علماء تلك الفترة في التصنيف في علم البلاغة، فيتضح أن لهم مشاركات جادة في هذا المجال على الرغم من قلتها، وقد تعددت أشكال التأليف عندهم في صور مختلفة، كتأليف، ووضع الحواشي والشروح على الكتب السابقة، وأختصاص قسم معين من أقسام البلاغة بالتصنيف، أو القيام بالكتابة في مواضيع أكثر تحديدا. ومن أشهر هؤلاء العلماء :

عبد الرؤوف المناوي (1545-1621):
وهو أحد العلماء الموسوعيون، الذين شاركوا في التأليف في الكثير من العلوم والمعارف والفنون، من تراجم وتصوف وحديث، وطب، وحيوان، ونبات، وتاريخ، حيث يقول عنه المحبي في خلاصة الأثر: "الإمام الكبير الحجة الثبت القدوة صاحب التصانيف السائرة، وأجل أهل عصره من غير ارتياب … وكان يقتصر يومه وليلته على وجبة واحدة من الطعام، وقد جمع من العلوم والمعارف على اختلاف أنواعها وتباين أقسامها، مالم يجتمع في أحد ممن عاصره ...". وقد وضع المناوي الكثير جدا من المصنفات الذي حُقق عدد منها، حيث نجد له في البلاغة كتاب "عماد البلاغة" وهو اختصار لكتاب المضاف والمنسوب
للثعالبي.

 "محمد الحتاتي المصري" (...-1641):
وهو "محمد بن أحمد بن محمد الحتاتي المصري"، ولي قضاء أسيوط والجيزة، حيث قال عنه المحبي: "الأديب الشاعر الكاتب المشهور، كان من أعيان الفضلاء وبلغاء الشعراء … له في الطب باع طويل، أخذ عن علماء مصر، ثم دخل الروم وأقام بها مدة طويلة ...". ترك عدة مؤلفات منها في علم البلاغة كتاب "حسن الصياغة في بيان مقامات علمي البلاغة"، ويقصد بها علمي المعاني والبيان.

 "شهاب الدين التلمساني" (1584-1631):
هو "أبو العبَاس شهابُ الدِين، أحمد بن محمَّد بن أحمد بن يحيى  المقَري التلمساني"، مؤرخ وأديب من علماء المغرب العربي، أرتحل إلى مصر عام 1618، ثم إلى الحجاز، وأقام بدمشق فترة، وتنقل بين القاهرة ودمشق مرات، إلى أن مات بالقاهرة ودُفن فيها. ولعل أشهر أعماله كتاب "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" -في أربع مجلدات- لتاريخ الأندلس وعلمائها وأدبائها. وقد ساهم هذا العالِم بمؤلف في علم البلاغة أسماه: "قطف المهتصر في أخبار المختصر"، وهو مؤلف على شرح التفتازاني "للمختصر".

 "ياسين الحمصي" (...-1651):
وهو "ياسين بن زين الدين بن أبي بكر بن عليم الحمصي"، شيخ عصره في علوم العربية، حيث وصفه صاحب الفوايد "بالإمام البليغ شيخ العربية، وقدوة أرباب المعاني والبيان". ولد بحمص ونشأ واشتهر وتوفى بمصر. وضع حاشيتين في علم البلاغة، إحداهما على المطول، والأخرى على المختصر للتفتازاني.


 "إبراهيم الميموني" (1583-1669):
هو إبراهيم بن محمد بن عيسى المصري الشافعي، نستطيع الحديث عنه بنقل كلام المحبي في خلاصة الأثر حيث يقول: "الإمام العلّامة الفهامة المحقق المدقق، خاتمة الأساتذة المتبحرين، كان آية ظاهرة في علوم التفسير والعربية، أعجوبة باهرة في العلوم النقلية والعقلية، حافظًا متفننا متضلعًا من الفنون، … أبلغ ما كان مشهورا فيه علم المعاني والبيان حتى قل من يناظره فيهما ….".  ترك عدة مؤلفات منها في البلاغة وضع حاشية على المختصر للتفتازاني.

 مرعي الحنبلي (...-1624):
هو العلّامة مرعي بن يوسف بن أبي بكر المقدسي الأزهري المصري الحنبلي، أحد علماء الأزهر الشريف الأجلّاء على مر العصور، بلغت عدد مؤلفاته ما يزيد عن 70 مؤلف تنوعت علومها، حيث وُجد مؤلفات له في الفقه والتفسير والعقائد والحديث، والنحو والصرف، والبلاغة، والسيرة، والتراجم، والتاريخ، والسلوك، والفضائل، ووجد كذلك له ديوان شعر. وللشيخ مرعي مؤلف في علم البلاغة أختص بجانب واحد منه وهو "علم البديع"، حيث أسمى كتابه هذا "القول البديع في علم البديع".

 "عبد البر الفيومي" (...-1661):
هو عبد البر بن عبد القادر بن محمد العوفي الفيومي، عالم، قاضي، وأديب ولد في القاهرة وتعلم بها، ثم ارتحل إلى الحجاز والشام، ومكث في دمشق نحو سنتين، ثم ارتحل إلى بلاد الروم، وتولى مناصب بها، وتوفي معزولا في القسطنطينية. صنف هذا العالِم كذلك في "علم البديع" في البلاغة مصنف بعنوان "حسن الصنيع في علم البديع".

 "عبد القادر الفيومي" (...-1613):
هو عبد القادر بن محمد بن زين الفيومي، فرضي، قاضي، فقيه، عارف بالحساب والهيئة والميقات والموسيقى، ترك كتابًا خاصًا "بعلم البيان" تحت عنوان: "فرائد البلاغة" وهو منظومة شعرية بلاغية.




 "عبد الجواد بن شعيب القنائي" (...-1663):
هو عبد الجواد بن شعيب بن أحمد بن عباد بن شعيب القنائي، عالِم، وقاضي، وأديب، يقول عنه المحبي: "إذا حدث أعجب وأبدع وأغرب وكان كثير الحفظ للأشعار ونوادر الأخبار ذا نظر في العلم دقيق وزيادة حذق وتحقيق وتقوى ظاهرة ومظاهر باهرة".
ترك مؤلفات كثيرة، منها رسالة بديعة في فن الاستعارة عنوانها "القهوة المدارة في تقسيم الاستعارة" .

 "أحمد بن محمد مكي الحموي"(...-1687):
وهو أحمد بن محمد مكي أبو العباس شهاب الدين الحسيني الحموي، عالم من علماء الحنفية، ترك الكثير من المؤلفات من بين كتب ورسائل، نذكر منها كتاب رائع في "الاستعارة" ذيله في مجلد بعنوان "درر العبارات وغرر الإشارات في تحقيق معاني الاستعارات"، وهو محقق ومطبوع.

مصر في العهد العثماني: العلوم اللغوية (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
المعاجم (القواميس):
اللغة العربية هي أرقى اللغات السامية، فلا تعادلها لغة سامية أخرى، سواء كانت الآرامية أوالأمهرية أو العبرية أو غيرها في الفرع السامي. وتعد اللغة العربية كذلك من أرقى لغات العالم وأكثرها مرونة وسعة واشتقاقًا، وهو الذي أهّل اللغة العربية لتكون لغة القرآن الكريم والحديث الشريف، وما فيما من معاني تدل على منتهى السمو والرفعة.
وبعد اختلاط العرب المسلمين بغيرهم من الأعاجم، نتج عن ذلك انتشار اللحن في اللغة وفساد ملكة العربية، فظهرت المعاجم اللغوية بعد وضع علم النحو، وذلك لحفظ كلمات اللغة من الكلمات الدخيلة عليها.
ولعل من أشهر معاجم اللغة التي ظهرت في تاريخ الإسلام، معجم "لسان العرب" لابن منظور، "القاموس المحيط" للفيروز ابادي، و"المزهر" للسيوطي. وقد شهد القرن الثامن عشر -خاصة- ازدهارًا في تاليف المعاجم، حتى أنه كانت هناك ست نسخ بين كل ثمان نسخ من المعاجم بمكتبة الأزهر تعود للقرن الثامن عشر.


* "يوسف بن زكريا المغربى" (...-1611):

وهو الأديب الشاعر يوسف بن زكريا المغربي، أسهب الشهاب الخفاجي في مدحه، حيث قال في ترجمته: "عزيز مصر بنانا وبيانا، ويوسف عصره حسنا وإحسانا، نشأ في مصر يتعاطى صنعة الأدب، ويربط بأوتاد شعره كل سبب". له عدة مؤلفات  بالإضافة لديوان شعر أسماه "الذهب اليوسفي"، حيث مثل معجمه ""دفع الإصر عن كلام أهل مصر" (محقق ومطبوع)، الجانب الذي نتحدث عنه عند الحديث عن إضافته في مجال المعاجم. وترجع أهمية هذا العمل إلى أنه يُعتبر أول معجم من المعاجم المعروفة حتى الآن، و التى تتضمن مفردات اللهجة المصرية الحيه ومراحل تطورها.

ولقد كان الغرض الرئيسي لوضع ذلك المعجم كما أشار صاحبه، دفع النقد عن العامية المصرية، ولتقديم البراهين اللازمة على أن لغة أهل مصر لغة عربية الأصل صحيحة. وقرر"أن يرتب هذا الكتاب على أبهج ترتيبه، وتهذب ما يقع من عوام أهل مصر بأن يرجعه للصواب". كما ذكر أيضا من بين الأسباب المباشرة التي دفعته لوضع الكتاب، أنه رأى " أن بعض المتشدقين قد سمع من بعض الأصحاب ألفاظًا فصار يهزأ به، ويسخر منه مع أنها تحتمل الصواب". وأسس عمله هذا على "القاموس" للفيروز آبادى، و"درة الخواص" للحريرى، و"مختصر الصحاح"، و"أساس البلاغة" للزمخشري.
ويكتب المغربى في بداية مؤلفه: "ومثل هذا الكتاب لا تنتهى مقاصده ولا تغيض موارده"، ويعلق اللغوي والمستعرب الروسي الكبير "گريگوري شرباتوڤ" على هذا الوصف بقوله: "فلا نرى في ذلك الوصف أية مبالغة لأن الكتاب في الواقع يحتوى على كثير من المعلومات عن الحياة التاريخية والثقافية لذلك العهد، وعن بعض الشخصيات المعاصرة له، مثل علماء الازهر،والكتاب، والشعراء، وحكام ذلك العهد، وعن الأوساط والمناقشات الأدبية، وعن نظام الحياة وأنواع الملابس، وأصناف الأكل وآلات الطرب ألخ". ويقول شرباتوف كذلك بأن الباحثين في تاريخ وأثنوغرافيا مصر سيعثرون فيه على ضالتهم، وخصوصا في تلك الفصول التي تتحدث عن عادات أهل القاهرة وأخلاقهم، وغيرهم من أهالي المدن المصرية الأخرى، وعن تجميل وتنظيف القاهرة، ونظام الإنارة بالقناديل، وانتشار شرب القهوة، وبداية انتشار شرب التبغ في مصر.

"شهاب الدين الخفاجي" (1569-1659):
هو "شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي المصري" قاضي القضاة، أديب القرن السابع عشر، صاحب التصانيف في الأدب واللغة، والتي ياتي على رأسها معجمه "شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل" (محقق ومطبوع). تأتي أهمية هذا المعجم في أنه عمد إلى تنقية الألفاظ العربية الأصلية عن غيرها من الألفاظ الدخيلة المولّدة، وهذا بلا ريب أمرا فريدًا في نوعه، لم يتطرق إليه أحد من قبله، حيث نراه يقول في هذا: "فأحببت أن أهدي تحفة للإخوان، بل عروسا منقبة بنقاب الحسن والإحسان، وأضفت إليه فوائد، ونظمت في لبانه فرائد، وضممت إليه قسم المولد … وقد أوردت فيه ما يسر الناظر ويشرح الخاطر، مع شيء من النقد والرد، ولطائف أدبية تذكر عهود تهامة ونجد".

ولقد رتب الخفاجي كتابه على حروف المعجم، مع إبراز الكلمات المولدة عن غيرها من الكلمات الأصلية، وتحقيقًا لهذه الفائدة، نجده يجاهد في توضيح هذا الأمر، بحيث أن الكلمات التي يُتوهم بأنها مولدة وهي غير ذلك، يذكر بعد الانتهاء من شرحها بأنها غير مولّدة.
وقد أحتوى هذا المعجم على ما يَقرُب من 1413 من الكلمات، وعلى الرغم من أن معظمها يخدم الغرض الذي وضع له، وهو إظهار الكلمات المولدة من غيرها، إلا أنه وجد بعض العبارات والأمثال الشعبية التي ما زال المجتمع المصري يستخدمها إلى الآن، والتي منها : "حماتي تحبني" - وهو من الأمثال العامة يقوله من صادف نعمة لم تكن على خاطره. "سكران طينة" تقوله العامة لمن سكر سكرًا شديدا كأنه وقع في الطين.
وقبل الانتقال للحديث عن أعمال أخرى، يجب الوقوف عند هذين العملين (دفع الإصر، شفاء الغليل) والقول بأنهما اشتركا في أمرين: الابتكار، والمضمون. ويعد الاشتراك في المضمون أمرا هاما في تصحيح المفاهيم العامة، سواء بتصحيح الكلمات والألفاظ التي يُتوهم بأنها غير عربية أو العكس. أما الحديث عن الابتكار فهي وقوف هؤلاء العلماء على مواطن الداء في مجتمعهم، وإنتاج أعمال تقدم علاجًا لهذا الداء.

شرح كتاب "درة الغواص في أوهام الخواص":
وهو كتاب "للقاسم بن علي الحريري"، حيث يجد الناظر لشرح الخفاجي عليه، مدى ما كان يعد الرجل لهذا الأمر منذ زمن بعيد؛ لعظم الإضافات التي أضافها الخفاجي للكتاب، وازدان بها نتيجة لهذا الشرح، وأمور لم يتعرض لها صاحب الكتاب نفسه. وقد اعتمد الخفاجي في شرح الكتاب على دعامتين أساسيتين: الأولى رجوعه لكتب الأوائل التي عدها العلماء أمهات الكتب، والثانية وهي الأهم قيامه بتفنيد آراء الحريري، وتحليل ما أتى به من شواهد، فعمل على تصحيح ما فهمه الحرير وتحامله على معاصريه من العلماء، وقد كشف الخفاجي عن الغرض في القيام بهذا العمل في قوله: "فلما رأيت طعنه على السالف، دعاني الانتصار للسلف إلى تمييز الدرر من الصدف"، وهذا بطبيعة الحال أمر يحتاج إلى وافر جهد وطويل صبر، وتصميم على تحقيق الهدف المرجو.

"عبد الله الطبلاوي" (١٥٦٧-١٦١٨):
هو الشيخ العالِم "عبد الله بن محمد بن عبد الله الحسيني" المعروف بالطبلاوي، مقرئ، نحوي، لغوي، عروضي، بياني، وصفه المحبي بقوله: "وأنفرد بعلم اللغة في زمنه على جميع أقرانه". من جهوده في مجال اللغة، قيامه بكتابة عدة نسخ من "القاموس" للفيروز آبادي، كما قام باختصار معجم "لسان العرب" لابن منظور، في كتاب سماه "رشف الضرب عن لسان العرب"، ولكنه لم يكتمل. ترك لنا مؤلفات أخرى مثل: "شرح على تأسيس المروض في علم العروض"، "حاشية على حاشيه البدر الدماميني على مغني اللبيب لابن هشام".

مصر في العهد العثماني: العلوم اللغوية (3)

بسم الله الرحمن الرحيم


عبد الرؤوف المناوي (1545-1621):
وهو أحد العلماء الموسوعيون، الذين شاركوا في التأليف في الكثير من العلوم والمعارف والفنون، من تراجم وتصوف وحديث، وطب، وحيوان، ونبات، وتاريخ، حيث يقول عنه المحبي في خلاصة الأثر: "الإمام الكبير الحجة الثبت القدوة صاحب التصانيف السائرة، وأجل أهل عصره من غير ارتياب … وكان يقتصر يومه وليلته على وجبة واحدة من الطعام، وقد جمع من العلوم والمعارف على اختلاف أنواعها وتباين أقسامها، مالم يجتمع في أحد ممن عاصره ...". وقد وضع المناوي الكثير جدا من المصنفات الذي حُقق عدد منها، منها مصنفين على القاموس المحيط للفيروز آبادي، أحدهما شرح لم يكتمل حيث وصل فيه إلى حرف الحاء المهملة، والآخر حاشية شملته من أوله لآخره.

"علي الحلبي" (1567-1635):
وهو "علي بن إبراهيم بن أحمد بن علي بن عمر الحلبي، القاهري، الشافعي"، مؤرخ، أديب، فقيه، أصولي، نحوي، لغوي أصله من حلب، مولده ووفاته بمصر. له تصانيف كثيرة أشهرها كتابه في السيرة "إنسان العيون بسيرة الأمين المأمون" المعروفة بالسيرة الحلبية، كما أن له مؤلفات لغوية منها مختصر لمعجم "المزهر" للسيوطي تحت عنوان: "زهر المزهر في مختصر المزهر"، و"مطالع البدور" في قواعد العربية.

"محمد مرتضى الزَّبيدي" (1732ـ1791):
وهو العلّامة اللغوي والكاتب والشاعر والمؤرخ "محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق"، ينتهي نسبه إلى أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. أحد كبار علماء المسلمين في العصر العثماني، الذين ألفوا في علوم شتى منها التفسير، والحديث، والفقه، والتصوف، التاريخ القبلي، والأنساب، التراجم ومن الذين أدلوا بدلوهم في علم اللغة، حيث كَثُر تلاميذه بسبب أسلوبه المتميز في التحليل، وطريقته المميزة في التعليم والتي أثارت الإعجاب، حتى لقد كانت النساء تحضرن دروسه العلمية التي كان يلقيها في منزل أحد الأعيان كل مساء. وترجع شهرة هذا العالِم بصورة أساسية أهمية كتابه الموسوعي "تاج العروس من جواهر القاموس"، وهو شرح لقاموس "الفيروز آبادي" يقع في عشرة أجزاء؛ حيث يعد هذا المعجم من أوسع المعاجم العربية، ولا يضارعه في حجمه أو يفوقه إلا «لسان العرب» لابن منظور، وقد أمضى في تأليفه "أربعة عشر" عاماً كان يواصل فيها عمله من دون انقطاع، فبدأ الاشتغال به عام 1760، وانتهى منه في 1774. وإلى الآن ما زال الباحثين والعلماء يُقدرون هذا العمل القيم الضخم، والذي بلغ حجمه 5 أمثال العمل الأصلي للفيروز آبادي، وبإضافات ضخمة وكبيرة جدا، دفع المؤرخ الأمريكي الشهير "پيتر گران" القول بأن هذا العمل الموسوعي يمثل دائرة معارف لا تضارعها "دائرة المعارف الفرنسية" التي أنتجتها شخصيات عظيمة، ومما جعله كذلك يُقارن بقاموس أكسفورد الإنگليزي في وظيفته.

بدأ الزبيدي في تأليف هذه الموسوعة بعد مرور تسع سنوات على مجيئه لمصر، وبعد أن بلغ التاسعة والعشرون من عمره. ترك لنا الزَّبيدي الكثير من المؤلفات ما بين كتاب ورسالة، نذكر منها على سبيل المثال: "مناقب أصحاب الحديث"، "شرح الصدر في أسماء أهل بدر"، "حسن المحاضرة في آداب البحث والمناظرة"، "الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة"، "اتحاف السادة المتقين بشرح أحاديث إحياء علوم الدين"، "إرشاد الإخوان إلى الأخلاق الحسان"، هذا بالإضافة إلى تضمن أعماله على حصر لجميع الطرق الصوفية في عصره، وتراجم للرحالة المسلمين في القرن الثاني عشر الهجري.
ويذكر لنا الزبيدي سبب تأليفه لهذا المعجم الضخم، ويذهب إلى ما ذهب إليه ابن خلدون في أن الاهتمام بالعلوم اللغوية راجع إلى أنها علوم مساعدة للعلوم الشرعية، حتى يمكن فهم معاني هذه العلوم، حيث نراه يقول: "فإنني لم أقصد سوى حفظ هذه اللغة الشريفة إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية، ولأن العالم بغوامضها يعلم ما يوافق فيه نية اللسان، ويخالف فيه اللسان النية".

وقد تطلب شرح القاموس من الزبيدي مجهودا ضخمًا جدًا، فقد كان لابد له قبل الشروع في تأليفه، قراءة معاجم اللغة السابقة كلها، كالصحاح للجوهري، واللسان للفيروز آبادي، والجمرة لابن دريد، والمخصص والمحكم لابن سيده، والتهذيب للأزهري، والأساس والفائق للزمخشري، وإصلاح المنطق لابن السكيت، والخصائص لابن جنى، وغيرها الكثير، والتي قرأها الزبيدي كلها.
وإلى جانب المعاجم فقد قرا الزبيدي كتب التاريخ، والحديث، والإسناد، والأنساب، والرجال، والتراجم، وتقويم البلدان "الجغرافية والرحلات"، والطب، والنبات، والحيوان، ودواوين الشعر، والتي نذكر منها: معجم البلدان لأبي عبيد البكري، تاريخ دمشق لابن عساكر، طبقات المفسرين للداودي، طبقات الشافعية للسبكي، تاريخ الإسلام للذهبي، خطط المقريزي، التذكرة في الطب للأنطاكي، كتاب النبات للدينوري.

وكانت تجاربه ورحلاته والمعرفة التي حصلها من بلاد الهند والعرب ومصر، يدونها في كتابه تحت عنوان "المستدرك"، وهي تتضمن معلومات جديدة انفرد بها الزبيدي، ولا توجد في معجم أو مرجع لغوي آخر.
وقد امتازت شروح الزبيدي على القاموس بروح تاريخية يعرف معها الباحث والدارس وجوها لمعاني الكلمات التي تتعلق بحياتها واصطناعها، وهو ما ينقص معاجمنا العربية حتى اليوم، فليس هناك في العربية معجم يذكر حياة الكلمات وموتها، ولكن الزبيدي يتتبع حياة الكلمات وموتها.

بلغت أعمال الزبيدي مئة وسبعة بين كتاب ورسالة، أكثر من نصفها يتصل بالحديث النبوي وسنده ورواته وتخريج بعض متونه، ومنها ما كتبه في الفقه والصوم والحج، وفي التاريخ واللغة والتصريف، وفي شرح بعض الخطب. فمنها
1- الروض المعطار في نسب آل جعفر الطيار.
2- "نشوة الإرتياح في بيان حقيقة الميسر والقداح"
3- "شجرة الدخان"
4- "قهوة اليمن"
5- "كشف اللثام عن آداب الإيمان والإسلام"
6- ألفية السند، وهو كتاب في علم الحديث النبوي يحوي ألف وخمس مائة بيت شعر وشرحها
7- تحفة القماعيل في مدح شيخ العرب إسماعيل
8- جذوة الاقتباس في نسب بني العباس
9- أسانيد الكتب الستة
وكان من أبرز تلامذته المؤرخ العلامة "عبد الرحمن الجبرتي".

الاثنين، 2 ديسمبر 2013

روائع من التاريخ العثماني

بسم الله الرحمن الرحيم
كُتيب روائع من التاريخ العثماني من أجمل الكتب العربية الصغيرة التي تتحدث عن مقتطفات تاريخية حدثت مع أكثر من سلطان عثماني، تدل على الرحمة والعدل والحكمة والذكاء. 

السبت، 23 نوفمبر 2013

مصر في العهد العثماني: المؤسسات التعليمية (1)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ويشمل هذا الجزء من البحث الحديث عن المؤسسات التعليمية ونشاطها، فنبدأ بمؤسسة التعليم الأولى "الكُتاب"، وحتى مرحلة التعليم العالي "الأزهر"، بخلاف بعض المؤسسات اﻷخرى كالمدارس والخوانق والزوايا. وكانت جُل هذه المؤسسات تعتمد على الأوقاف، والتي عندما دخل السلطان "سليم الأول" مصر أقر باستمرار ما كان قائمًا منها، وألا يتعرض أحد لها بشيء، كما أصدر القانوني فرمانًا يُجرم من يتعرض للأوقاف بضرر أو أذى.


أ- الكتاتيب:

يُعتبر الكُتاب من أقدم دور التعليم التي عرفتها الدول الإسلامية، وكذلك عرفتها الشعوب السابقة قبل الإسلام. والكُتاب عبارة عن مكان متواضع (غرفة) منسجمة بعض الشيء ومفروشة بالحصر، يجتمع فيها الأطفال مع معلمهم، حيث يتعلم الأطفال القراءة والكتابة والحساب، وحفظ القرآن الكريم. وقد انتشر هذا النوع من التعليم في جميع أنحاء مصر، ولم يكن قاصرًا على القاهرة فقط، بل كان في كل مدينة سواء كانت كبيرة أو صغيرة. وبالإطلاع على وثائق المحاكم الشعرية الخاصة بهذا العصر، تبين مدى تنافس اﻷفراد في انشاء هذا النوع من المؤسسات التعليمية، بالإضافة إلى الأوقاف الكثيرة التي كانت تُرصد على هذه الكتاتيب.

وكانت الدراسة في هذه المؤسسة تبدأ بسن 6 سنوات، عادة ما يبدأ الطفل فيها بتعلم أسس القراءة والكتابة، وحفظ جزء "عم"، وكان يعتمد الحفظ على التكرار وبصوت مسموع. وكان من بين الشروط الواجب توافرها في "المُعلم" أو "المؤدب" أن يكون من أهل الخير والعفاف، بجانب حفظه للقرآن، وبعد اتمام الطفل حفظه للقرآن الكريم، يُقام له احتفال بهيج يشترك فيه جميع الصبيان من زملائه في المكتب، ثم يتجه بعد الُكتاب للدراسة إما في "الأزهر الشريف"، أو أحد المساجد التعليمية الكبرى مثل مسجد "السيد البدوي" بطنطا، أو الاتجاه للاشتغال بالزراعة وغيرها.
وليس دليل أقوى على اهتمام المجتمع المصري في هذا العصر بمؤسسة الكتاتيب من إشراف قاضي القضاة بنفسه عليها في بعض الأحيان، كما تشير بعض الوثائق الأرشيفية بذلك، والتي تنص على قيام بعض الأطباء بعمل فحص للأطفال الذين "بلغوا الحُلم" لعزلهم وإلحاق آخرين مكانهم.
وبلغ عدد الكتاتيب في مدينة القاهرة وحدها في القرن السابع عشر 89 كُتاب يدرُس بها تلاميذ المدينة، وقد أُنشئت الكثير من الكتاتيب في هذا القرن، مما يدل على اهتمام المجتمع بدور هذه المؤسسة. وقد تفاوتت هذه الكتاتيب من حيث عدد تلاميذها والرواتب التي تُمنح للأطفال الدراسين والمؤدب ومساعده. ونضرب أمثلة صغيرة على هذه الكتاتيب التي أُنشئت :
أ- 1591- مكتب الأمير سليمان محمد الجباص
ب- 1598- مكتب الجمالي محمد عبد الله
ج-  1608- مكتب شهاب الدين أحمد بن شمس الدين
د- 1608- مكتب ناصر الحاج يحيى الشهير بابن مسرة الحلبي
هـ- 1610- مكتب الشيخ زين الدين بن عبد المعطي البنوفري
و- 1638- مكتب مصطفى بك كبر اللواء الشريف السلطاني
وهذه الأمثلة اليسرة التي هي جزء مما تم إنشاءه، قام بانشائها الأمراء العسكريين، حيث ارتفع الوضع الاقتصادي لهم، ونجد كذلك التجار ممكن شاركوا في القيام بأعمال الخير الهامة، ومن الملاحظ كذلك أن أصحاب هذه الكتاتيب كانوا يُخرجون مبلغ مالي كل شهر لتنظيف تلك الكتاتيب وملحقاتها، والحرص على توفير جو صحي للتلاميذ.

ب- الزوايا:
وهي أول ما أنشئت كركن من أركان المساجد للعبادة والاعتكاف، ثم تطورت بعد ذلك إلى أبنية صغيرة للتعليم والصلاة والعبادة، يتخذها أحد المشايخ المشهورين بالتقوى والصلاح سكنًا له. والحقيقة أن المجتمع أكثر من إنشاء مثل هذه المؤسسات في العهد العثماني، حيث غلب النهج الصوفي على هذه الدور. وقد وجد زوايا لتعليم الأطفال القراءة والكتابة بالإضافة لحفظ القرآن، وبرنامج تعليمي لهم، يعلمهم كيفية استخراج المعلومات من الكتاب، وكيفية الوضوء للصلاة، بالإضافة لرواتب شهرية للأطفال، وطعام وأدوية وأقلام ومداد وغير ذلك.

ج- الخوانق:
و"الخانقة" كلمة فارسية معناها "بيت"، جعلت للصوفيين للعبادة. والواضح أن الخانقة التي سُميت فيما بعد "بالتكية" قد خرجت عن الدور الذي أُنشئت من أجله كدور للعبادة، وأصبحت تمارس نشاطًا تعليميًا، حيث أنصب التعليم في هذه المؤسسات على الأحاديث وروايتها، بالإضافة للتعاليم الصوفية. ومن الخانقاوات التي مارست دورًا تعليميًا في تلك الفترة تكية "سليمان پاشا" الواقعة بخط جامع قوصون.

د- المساجد:
وتعتبر المساجد من أقدم المؤسسات التعليمية وأهمها في تاريخ الإسلام، فهو بتميز عن غيره بالحرية في اختيار المدرسين والطلبة للمناهج الدراسية، وأسلوبها وأوقاتها في أغلب الأحيان. وقد شهد المسجد بمصر العثمانية نشاطًا تعليميًا ملحوظًا، فقد تمتعت مصر بكثير من المساجد الكبيرة المشهورة، والتي مارست نشاطًا تعليميًا خلال تلك الفترة سواء في "القاهرة" أو "الأقاليم". ومن المساجد الهامة التي مارست دورًا تعليميًا مسجد "ابن طولون" بالقاهرة، والذي رتب فيه دروسًا للفقه على المذاهب الأربعة، ودرس للتفسير، ودرس للحديث، ودرس للطب، ودرس للميقات، وغيرها. كذلك جامع ""المارداني" أحد أهم جوامع القاهرة بإطلاق، حيث يشهد على قوة الحركة العلمية بهذا المسجد، وجود وظيفة "كاتب غيبة" -لتسجيل الحضور والغياب- لكل من المدرسين والطلاب الذين يواظبون على حضور الدروس العلمية. ومن الجوامع التي شهدت حركة علمية كذلك "الجامع الحسيني" أو "المشهد الحسيني"، الذي كانت تُدرس فيه علوم شتى كالفقه والتفسير والحديث، والذي كان يدرس فيه الشيخ العلامة "أبي السرور الصديقي"، الذي كان يلقي به درس في "علم التفسير" أمام وزير مصر "محمد پاشا"، فلم تحظ مؤسسة تعليمية برصد الأموال عليها كما حظيت مؤسسة "المشهد الحسيني".

هـ- المدارس:
ويختلف المؤرخون حول أول من بناها في الإسلام، إلا أن الأتفاق بينهم على أن لها وظيفة "تربوية" هامة جدا، فالنمو التعليمي في مجالات العلوم العقلية والطبيعية والرياضيات، كان يستلزم مكانًا آخر بخلاف المسجد، الذي يجب أن يكون بعيدًا عن التجارب المعملية والنقاشات الحادة. وقد أدخل بعض التعديلات على المدارس في العصر المملوكي، حيث أصبحت "المدرسة الخانقاة" بجمع بين الخانقاة التي تم ذكرها سابقًا بداخل المدرسة، أما في العصر العثماني، فقد طرأت وظيفة استخدام المدارس كمقار للمحاكم الشرعية، ومن ذلك عندما اتخذت "دار الحديث المدرسة الكاملية"، لتكون مقر لمحكمة القسمة الغربية. وقد وُجد في القرن السابع عشر حوالي 61 مدرسة بالقاهرة فقط، الأمر الذي يبطل الرأي القائل أن الحركة العلمية انطفأت بقدوم العثمانيين، وأنها اقتصرت على الأزهر فقط. وكثيرا ما تخبرنا وثائق ذلك العصر على محافظة الشعب على تلك المؤسسات ولُجؤهم للإدارة والقضاء في حالة ضرر أصابها، على أنه -للأمانة التاريخية- يجب الإشارة أن الحكم العثماني كان قليل التدخل في مثل هذه الشئون، إلا أن الإدارة العثمانية بمصر وعلى رأسها "الپاشا" كانت تستجيب على الفرد لتحركات الأفراد للإنقاذ السريع لتلك المؤسسات، فكانت ترسل إلى الجهة المختصة بالإصلاح لسرعة المعاينة والكشف على المبنى المتضرر. وتعتبر أهم المدارس التي أُنشئت في القرن السابع عشر:

1- مدرسة "ألتى برمق" (وتعني بالتركية ذو الأصابع الست)، والتي تنسب للعالِم الشيخ "محمد بن محمد" المعروف بألتى برمق.
2- مدرسة الأمير مصطفى: وتنسب للأمير "أرنؤط بن حسين"، وذلك في العام 1638، وقد انحصر التدريس فيها وتخصصت في الفقه الشافعي.
3- مدرسة محمد پاشا أبو النور: وهو أحد الوزراء الذين تولوا مصر من 16 مارس 1651 إلى 9 سبتمبر 1652، وكانت له اهتمامات خاصة بالحركة العلمية، وخاصة المنشئات المتعلقة بها، وقد لقب بأبي النور؛ لأنه أمر أيام ولايته لنظار الجوامع بالقاهرة والفسطاط أن يبيضوا الجوامع والمساجد والرباطات والمشاهد، فبيضوها جميعًا، ولهذا أطلق عليه هذا الاسم. وقد بنى جامعًا عظيمًا بالقرب من خط الخليفة، ومدرس للحديث، وصهريجًا، ومكتبًا لتعليم الأطفال القرآن، وقد كان يكرم الموظفين الذين يعملون عنده، فبالإضافة للأجور كان يخصص لهم حصص من الغلال إضافية، وأشربة وخبز.
4- مدرسة إسماعيل پاشا: بجوار ديوان السلطان "قايتباي"، أنشأها إسماعيل پاشا الوزير، وقد اقتصرت على علم الحديث فقط.

مصر في العهد العثماني: المؤسسات التعليمية (2)

بسم الله الرحمن الرحيم


و- المكتبات:

وللمكتبات أهمية كبيرة في الحضارة الإسلامية، وقد كانت الدولة المملوكية في عزتها وقوتها، دولة يَكثُر بها المكتبات، ويهتم الناس فيها باقتناء الكُتب. ولم تختلف درجة اهتمام الشعب المصري باقتناء الكتب وإنشاء المكتبات في العصر المملوكي عنه في العصر العثماني، والعمل في نفس الوقت على الحفاظ على الكتب التي ورثوها عن أسلافهم. فمن ناحية أقتناء الكتب وتكوين المكتبات الخاصة، فطبقًا لما سجلته وثائق المحاكم الشرعية، نلحظ اهتمام واضح باقتناء الكتب على مستوى الأفراد، وأن هذا الاهتمام لم يكن يقتصر على فئة اجتماعية معينة، فاقتنى الكتب العلماء والعسكريون، والصوفية، والتجار، والمواطنون العاديون، فكل هؤلاء كانوا يمتلكون مكتبات خاصة في بيوتهم، ولكن من المؤكد اختلاف نوعية الكتب التي تقتنيها كل فئة عن الأخرى. ومن أهم ما يلاحظ من هذه الوثائق كذلك، ارتفاع أسعار الكتب التي يحرص كل فرد على اقتنائها، مما يؤكد على الوعي الثقافي لأفراد المجتمع آنذاك، إن نجد أن من بعض الكتب ما بلغ سعره "12 ألف بارة"، أي ما يساوي 800 أردب قمح في أوقات الرخاء في ذلك الحين.
كما نجد أن قيمة المكتبات الخاصة أحيانًا تستحوذ على قيمة 33% من أجمالي ما يمتلكه الفرد، وهناك من وصلت قيمة مكتبته حوالي 50% من إجمالي ما يمتلكه، وهناك من وصل لـ 74% من إجمالي ما ترك. ومن الملاحظ أيضًا أن المجتمع القاهري هو من كثرت لديه المكتبات الخاصة أكثر من الأقاليم، وقد يكون السبب في هذا أن القاهرة وما تمتلكه من امكانيات غير موجودة بالأقاليم، كالمؤسسات التعليمية العظيمة، وكثرة حوانيت الوراقين، بالإضافة لأسواق القاهرة الكثيرة التي كانت تباع بها تركات الموتى، ومنها مكتباتهم الخاصة.

أما عن محافظة أفراد المجتمع على مكتبات المدارس التي ورثوها عن أسلافهم، فتشير الوثائق لوجود واستمرار وظيفة "خازن الكتب" الذي يعمل على صيانة الكتب والحفاظ عليها بالمدارس، ونرى على سبيل المثال لا الحصر مكتبة "المدرسة المحمودية"، ومكتبة "مدرسة أبو الطيب"، ومكتبة "مدرسة جوهر الالا"، ومكتبة "المدرسة المؤيدية"، ومكتبة "المدرسة البرقوقية"، ومكتبة "مدرسة قايتباي"، ومكتبة "مدرسة السلطان حسن"، وغيرهم، ولعل استمرار تواجد هذا العدد من المكتبات وصولا إلى القرن السابع عشر ونهايته، دليلا واضحًا وردا على كل المتحاملين على العصر العثماني، مثل المؤرخ "عبد الرحمن الرافعي" في كتابه "تاريخ الحركة القومية"، والذي صرح بان خزائن الكتب التي يرجع تاريخ إنشائها إلى العصور السابقة للعصر العثماني، قد تبددت ولم يبق منها إلا القليل بالجامع الأزهر.
ولم يقف حد ثقافة المجتمع المصري على اقتناء الكتب، وتكوين المكتبات والمحافظة على تراثه، بل نرى حرص الكثير من أصحاب المكتبات الخاصة، توفير إمكانية الإطلاع على هذه الكتب، خاصة لغير القادرين على شرائها من طلبة العلم، كما كان يقوم كثير منهم بوقف هذه الكتب بعد موته على طلبة العلم لينتفعوا بها.

وبإطلالة على نوعية الكتب، والعلوم التي دُونت بها، والتي تعطينا نظرة على ثقافة المجتمع في تلك الفترة، نجد من الإطلاع على المؤلفات أن نسبة الأهتمام الأكبر كان تتجه نحو العلوم الدينية، فاللغوية، والفقة، والتفسير، والنحو، واللغة، والبلاغة، والأدب.... ألخ، وكانت هذه النوعية من الكتب هذ الغالبة على بقية العلوم الأخرى، ويظهر كذلك في المكتبات التي اقتصرت على العلوم الدينية واللغوية، أو التي شمت هذه العلوم مع العلوم العقلية، وفي حالات ضيقة وجدت بعض المكتبات التي اقتصرت على العلوم العقلية فحسب، مثل مكتبة الطبيب "شهاب أحمد بن الشيخ خطاب"، عين أعيان السادة الأطباء بالبيمارستان المنصوري آنذاك، والتي تعد من المكتبات المتخصصة، حيث أغلب ما وجد بها كتب عن الطب فقط.
وهناك من الناس من أوقف مكتبته بداخل الأزهر، ووجد من أوقفها ببيته، يذهب إلىه طلبة العلم في منزله، مثل مكتبة الأمير "محمد قانصوه بك"، حيث تعبر هذه المكتبة الثرية القيمة عن ولع هذا الأمير باقتناء الكتب العلمية المتنوعة، فقد حوت كتب نفيسة متنوعة، مثل كتب علم الحديث، وعلم الكلام، والفقه، والفرائض، واللغة، والتاريخ، والبلاغة، والأدب، والطب، والحكمة، والتصوف، وعلم الحرف والزايرجا، وفنون الصنائع، بالإضافة لكتب الفارسية والتركية وغيرها.


* المؤسسات التعليمية بالأقاليم:
ولا نستطيع الحديث بصورة كاملة عن شكل المؤسسات بسائر الأقاليم المصرية؛ نظرًا لضآلة المعلومات المتوفرة عن شكل هذه المؤسسات، وسير الحركة العلمية، ولكن ما لدينا من مصادر من الممكن أن يعطينا توصر عامًا عن شكل الحركة التعليمية، وأبدأ الحديث عن أقاليم الوجه البحري، حيث كانت الحركة العلمية أفضل حالا في الأقاليم البحرية منها بالنسبة للأقاليم القبلية، ويرجع ذلك لاعتبارات عدة، أهمها قرب هذه الأقاليم من القاهرة، بالإضافة لتمتع بعض تلك الأقاليم بموقع استراتيجي أضفى عليها أهمية كبرى كدمياط، والإسكندرية اللتين كانا من أهم الحصون والموانئ التجارية بمصر.

أ- الإسكندرية:
وتعتبر "الإسكندرية" من أهم المدن المصرية التي عايشت نشاطًا مزدهرًا إبان الفترة العثمانية، ويعود ذلك لعدة أمور أهمها:
1- تقع بموقع استراتيجي لكونها من أهم المواني التجارية.
2- من أهم الثغور المصرية على الإطلاق
3- أهم الموانئ لرسو سفن الحجاج المغاربة.
وكان يؤدي السبب الثالث لكثرة الاختلاط العلمي بين السكان في المدينة، وهؤلاء الحجاج، مما أثر بشكل مباشر على انتشار مذهب الإمام مالك في المدينة.
وتعتبر الإسكندرية من أغنى المدن بالمؤسسات التعليمية والدينية، حيث تذكر لنا المصادر ما يؤكد وجود عدد كبير من هذه المؤسسات، لها استحقاق في عوائد جمارك المدينة، ففيها أثنان وثلاثون مقامًا، وتسعة عشر جامعًا وزاوية، أحدى عشر سبيلا، وذلك في القرن السابع عشر فقط. فبالنسبة لمؤسسات التعليم الأولى وجد عدد من المكتاتيب الملحقة بالمدارس، بالإضافة لكتاتيب مستقلة. أما عن المدارس فمنها "المدرسة الفخرية"، "المدرسة العونية"، "المدرسة الدمامنية"، وهي من المدارس التي يُلحق بها مكتب لتأديب الأطفال، و"المدرسة الحنفية"، و"المدرسة الواسطية" الواقعة غرب المدينة، و"مدرسة الشيخ محمد البنوفري"، و"المدرسة الخلاصية"، و"المدرسة الشبراوية". هذا بالإضافة إلى مجموعة من المدارس الجديدة التي تم إنشائها، مثل مدرسة "الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمج" الشهير بالشيرازي المالكي، خارج المدينة بالجزيرة الخضراء، وكذلك "مدرسة عثمان ان الخوجا زين الدين شحاذة القسطيني" والتي كانت كذلك خارج المدينة بالجزيرة الخضراء، والذي يدل على حرص سكان المدينة على استمرار الحركة العلمية بها.

ب- دمياط:
وتعتبر واحدة من أغنى وأنشط الأقاليم المصرية بصفة عامة في المجال العلمي والثقافي، ويرجع ذلك لكونها ميناء هام، ومركز تجاري كبير. والحق أن نقول أن الشهيرة العلمية لدمياط، لم تكن وليدة الفترة العثمانية، بل ترجع جذورها للعصور التي سبقت العصر العثماني، وكانت مؤسسات التعليم الأولي بالمدينة، والتي تمثلت في الكتاتيب، والزوايا، والمقامات، والتكايا، بعد حجر الأساس لهذه المؤسسات، وغالبا ما وجدت الكتاتيب بالمدينة تابعة أو ملحقة لشيء آخر.
أما مؤسسات التعليم العالي فانحصرت بين المدرسة والجامع، فالجوامع انحصرت بين "الجامع الكبير" أو "الجامع البحر"، والذي كان يُعد من أهم المؤسسات العلمية وأنشطها بدمياط، إلى حد تشبيه النشاط العلمي به بالنشاط الموجود بالأزهر، والذي درّس فيه العلّامة "ابن النقيب البيروتي الشافعي". أما الجوامع الأخرى التي وُجد بها نشاطًا علميا فمنها "جامع لقمان"، "جامع النعمان"، "جامع البكري"، "الجامع البدري". أما المدارس فوجد مجموعة كبيرة منها شهدت رواجًا علميًا، وكانت لها اعتمادات مالية ضخمة، والذي أعطاها استقلالية كبيرة، حيث تستطيع القول أن كل مدرسة مثلت "كلية مستقلة" لها مواردها الخاصة، مما أنعكس على أدائها التعليمي.
ويأتي على رأس هذه المدارس "المدرسة المتبولية"، التي أنشئها السلطان "قايتباي"، وكانت ضخمة لدرجة وجود "مطبخ" بها لطبخ الطعام للمدرسين والطلبة والوظفين، إضافة لمكتب لتعليم الأطفال، وكانت وقفًا على علماء الشافيعة. حيث درس بها كل من الشيخ العالِم "شمس الدين محمد الشوبري الشافعي"، الشيخ "شمس الدين محمد بن علم الدين سليمان". كذلك نجد من المدارس "المدرسة المعنية"، و"المدرسة المسلمية"، "المدرسة الحلمية"، "المدرسة العوتبانية"، "المدرسة البرقوقية"، "المدرسة الفاعلية"، "المدرسة الناصرية"، بالإضافة لمدارس جديدة بنيت في القرن السابع عشر مثل المدرسة التي أنشاها الأمير "مصطفى أرنؤد" كاشف إقليم الدقهلية آنذاك.

* الأقاليم الأخرى في الوجه البحري:
ومن أقاليم الوجه البحري التي شهدت حركة علمية نشطة إبان تلك الفترة "إقليم الغربية"، الذي تمتع بعدد من المؤسسات التعليمية، سواء تلك التي تنتمي إلى مرحلة "التعليم الأولي"، أو "التعليم العالي"، فمن مؤسسات التعليم الأولي مكتب "تأديب الأطفال" الكاين بباب السلسلة  -أنذاك- وزاوية الشيخ "شهاب الدين الطبلاوي" الشافعي، التي كان يتم فيها قراءة القرآن الكريم، وتحفيظة  وتدريس الحديث الشريف.
أما عن مؤسسات التعليم العالي به، فنجد منها تلك المدرسة التي كانت تقع بناحية "ابن الكنانين"، وهي من منشآت العصر المملوكي، علي أن من أكثر مؤسسات هذا الأقليم شهرة في هذا المجال "الجامع الأحدمدي"، نسبة إلى السيد "أحمد البدوي"، ومن الحق القول بأن شهرة هذا الجامع في المجال التعليمي لم تقف عند حدود إقليم الغربية، بل تخطته إلى أقاليم الدلتا بوجه عام، حيث كان يجذب إلىه كثيرًا من طلبة تلك الأقاليم لتلقي التعليم فيه؛ لكونه أقرب مسافة وأقل كلفة من التعليم بالعاصمة، بل تعدى نشاطه أقاليم "الوجه البحري" إلى نزوح بعض طلاب العلم من الوجه القبلي لتلقي العلم علي يد علمائه.

وقد خرج من هذا الإقليم العديد من العلماء الذين كان يشار إلىهم بالتفرد في مختلف العلوم، ومنهم من كان مقصدًا لطلبة العلم من المشرق والمغرب، كالشيخ العالِم "محمد بن قاسم إسماعيل البقري المقري" (ت1698م) نسبة إلى قرية "دار البقر"، وهي من قرى المحلة بالغربية، حيث نجده بعد إتمام حفظ القرآن الكريم ببلدته، ينتقل إلى القاهرة لإتمام تعليمه بالجامع الأزهر، إلى أن تفرد في علم القراءات والتجويد، فقصده الطلاب وتخرج علي يديه خلق كثيرة من المشرق والمغرب.
وهناك أقاليم أخرى في الوجه البحري كانت ذات نمط تعليمي ملحوظ في ذلك الحين، ومنها إقليم الدقهلية، الذي  تواجد به مؤسسات تعليمية تمثل المرحلتين الأولية والعليا، فمن مؤسسات المرحلة الأولى نجد مكتبًا لتأديب الأطفال، وكان ملحقًا بالجامع الذي كان يقع بخط القسم، والذس أنشاءه "مصطفى جاويش" الشهير بأبي طبق.
ومن مؤسسات المرحلة الثانية، جامع "المحمودية" بالمنصورة، وكان من مدرسيه الشيخ "إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن المالكي". كما نجد من تلك الأقاليم أيضا إقليم "السويس" إذ نرى من مؤسساته التعليمية مدرسة "العفرية"، وغير ذلك من المؤسسات الأخرى.

هكذا وعلي الرغم من ضآلة إشارات المصادر إلى المؤسسات التعليمية لبعض الأقاليم، إلا أنها تعطينا دلالات شبة واضحة علي مدي نشاط الحركة التعليمية وإهتمام أولي الأمر بالتعليم في تلك الأقاليم.

مصر في العهد العثماني: المؤسسات التعليمية (3)

بسم الله الرحمن الرحيم
ب- أقاليم الوجه القبلي :
أما عن نشاط المؤسسات التعليمية بأقاليم الوجه القبلي، فبداية نذكر أن هناك تفاوتًا في نشاط المؤسسات التعليمية وعددها بين إقليم وآخر حسب أهمية الإقليم وتأثيره، فلو نظرنا إلى أقاليم الوجه القبلي إبان فترة العصر العثماني نجد أن أكثرها ثقلا، إقليم جرجا، ويرجع ذلك إلى أن التنظيم الاداري لمصر العثمانية، قد ارتكز في تقسيمة إلى خمسة أقاليم إدارية كبري، أربعة للوجة البحري، وإقليم واحد للوجة القبلي وهو المتمثل في إقليم "جرجا"، وقد يعزى هذا إلى ما كانت تتمتع به "جرجا" من أهمية اقتصادية في ذلك الحين، حيث كانت تعد مركز التموين الأول للبلاد، وخاصة من القمح، وقد انعكست الأهمية السياسية علي النشاط التعليمي لهذه المدينة، أو هذا الإقليم خلال ذلك العصر.
إذا كانت "جرجا" تعتبر من أنشط مدن الوجه القبلي في الجوانب العلمية سواء في غناها بالمؤسسات التعليمية، أو وفرة العلماء الذين أثروا الحركة التعليمية والفكرية فيها، فعن المؤسسات التعليمية بتلك المدينة نجد الكثير من مؤسسات التعليم الأولي المتمثلة في الكتاتيب. إذ نري منها "مكتب الأمير علي بك"، ومكتب "الشيخ عبد الرحمن بن عبد المنعم"، والمكتب الذي كان يقع بالقرب من الجامع الصيفي، ومكتب "الصنجق" الملتصق بجامع الفقراء ومكتب "الشيخ سعيد"، ومكتب "الست جرجا" المشهور "بالأربعين"، ومكتب يقع بجوار "مسجد عيسي أغا" ومكتب "سيدي الشيخ علي نور الله"، ومكتب الشيخ "علي المفقود العناني"، ومكتب بجوار "مسجد الداودية" ومكتب بالقرب من ضريح العلامة الشيخ "أحمد الشرقاوي"، والمكتب الذي أنشأه الوزير "محمد پاشا"،  وقد اشتمل هذا المكتب علي مصلى، ومن تحته سبيل، وحوض، وساقية، وقد رصد له "محمد پاشا" قطعة أرض مساحتها ثمانون فدانا.


أما مؤسسات التعليم العالي بتلك المدينة فنجد أنها قد تمثلت في الجوامع التي مارست حركة تعليمية نشطة آنذاك. ومن هذه الجوامع جامع "المتولي" أو "الجامع المعلق" الذي أنشأه الأمير "محمد أبو السنون" حاكم "جرجا"، وذلك في حدود المائة الثامنة للهجرة تقريبا. وكان من مدرسيه الشيخ "العالِم عبد الجواد الكبير الأنصاري" (ت1679) والشيخ "عبد الرحمن بن عبد المُنعم"، والشيخ "عبد البر عناني" مفتي السادة الحنفية بالصعيد آنذاك، وجامع الأمير "علي بك الفقاري"، ومن مدرسيه الشيخ محمد الملقب "بأصيل الدين بن محمد بن محمد أصيل الدين" (ت1693)، وهو أحد من تولي إفتاء مدينة جرجا في زمنه، وله مؤلفات عديدة في عدة علوم مختلفة منها "الفقه"، و"الحديث"، و"التوحيد"، و"اللغة"، وقد قام بالتدريس بأكثر من مؤسسة تعليمية بجرجا، منها الجامع المشار إلىه حيث كان يُدرّس به علم الحديث.
أيضًا جامع الفقراء، الذي كان يُعرف بجامع "الزبد" وكان يحتوي على مكتبة غنية بالكتب في عدة علوم مختلفة.
ومما هو جدير بالذكر في هذا الشأن أن "جرجا" قد شهدت إنشاء مؤسسات تعليمية إضافية، ومن ذلك الجامع الذي أنشأه "أحمد بن حمادة ابن محمد الفاضل"، الذي يرجع تاريخه إلى عام 1683.

هناك عدة مدن خري من مدن الوجه القبلي كان وُجد بها عدد من المؤسسات التعليمية، ولكن في الحقيقة ليس بنفس القدر الذي وُجد بجرجا، ومن بين هذه المدن مدينة "أسيوط"، التي نري من مؤسساتها التعليمية مكتب السبيل الكائن "بالتربة"، ومن مدارسها مدرسة "العلاوي أبو دقن"، التي أُنشئت في بداية القرن العاشر الهجري 1498، والمدرسة "الشريفية"، التي أنشأها القاضي "السيد الشريف زين الدين"، تحديدا في عام 1502. ومما هو واضح أن "أسيوط" من المدن التي كانت تعاني من تجاهل ولاة الأمر، وقلة اهتمامهم بأنشطتها العلمية، الأمر الذي أدى إلى قلة إنشاء المؤسسات التعليمية بها، مما أدى بدوره إلى ندرة ظهور شخصيات علمية منها كالتالي رأينها في جرجا مثلا.
ومن مدن الوجه القبلي ذات النشاط العلمي الملحوظ في تلك الفترة أيضا مدينة "ملوى" التي كانت تعد مركزا لولاية "الأشمونين"، وقد أضفي هذا الوضع الإداري علي "ملوى" بعض من الأهمية، الأمر الذي انعكس بدوره على إنشاء المؤسسات التعليمية بها. فمن مؤسسات التعليم الأولي مكتب "عابدين جاويش"، ومكتب السبيل الذي أنشأه المقدم "أحمد بن المقدم علي"، مقدم ولاية جرجا، وزاوية الشيخ "أبو بكر بن علي بن حماد التوني". أما عن المدارس فنجد منها مدرسة الشيخ "شهاب الدين أحمد الدلجي"، والمدرسة "المعزية" نسبة إلى منشئها القاضي "عز الدين محمد بن عساكر".
وثمة مدينة أخرى كانت تعد فقيرة في مؤسساتها التعليمية آنذاك وهي مدينة "البهنسا"، ومن مؤسساتها التعليمية نجد مكتب "السبيل الكائن بناحية "أهطو"، وهو من إنشاء "أحمد بن عمر المقروش"، وكل من زاوية ومكتب "السبيل" بخط الركنين، إنشاء أمير اللواء "مصطفي" حاكم ولاية "البهنساوية" وذلك بجوار منزله. ومكتب السبيل إنشاء الشيخ "أبو البركات" الذي كان مُقاما بناحية العساكرة، وغير ذلك من المؤسسات الأخرى.

وهكذا فقد لاحظنا مدي ضآلة المؤسسات بمدن الوجه القبلي بعكس ما رأيناه في كل من "القاهرة" ومدن "الوجه البحري". على أن من أهم ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد، أن الحركة التعليمية والفكرية لم تكن قاصرة علي القاهرة وحدها، بل انتشرت في معظم أقاليم مصر، – مدنها وقراها – بل نجد ما هو أهم من ذلك، أن نسبة الإقبال على التعليم كانت عند أبناء "الأقاليم" أكثر مما هو عند أبناء "القاهرة"، ومما يدل على صحة ذلك أن معظم مشاهير العلماء الذين أثرو الحركة العلمية والفكرية في مصر، كانوا ينتمون في الاصل إلى الأقاليم، إذ بدأوا مراحل التعليم الأولي بالأقاليم، ثم إلى القاهرة بعد ذلك؛ ليجاوروا بالجامع الأزهر مرحلة التعليم العالي، ولاستكمال مسيرتهم التعليمية، إلى أن أصبحوا فيما بعد حملة العلم ينقلونه إلى الأجيال المتعاقبة.

* دور الأزهر في احتفاظ مصر بالريادة العلمية :
مما هو غني عن البيان، أن المنافسة القديمة التي كانت بين القاهرة وبغداد عاصمة "العباسيين" قد حُسمت لصالح القاهرة منذ أوائل العصر المملوكي، على إثر الهجمات المغولية علي عاصمة العباسيين، كما حُسمت أيضًا المنافسة بين القاهرة ودمشق، وذلك بعد الغزوات الصليبية علي العالِم الإسلامي، والتي تركزت علي بلاد الشام، وحتي بعد طرد "الصليبيين" من تلك البقاع على أيدي "الأيوبيين" و"المماليك"، إلا أن الشام أصبحت إقليم تابعا لدولة مركزها "القاهرة"، وبالتالي ظلت العاصمة مركز الصدارة،وليس كمركز للسلطة فحسب، كذلك بل كملتقي للعلماء من كل مكان.

عندما سيطر العثمانيون تحولت مصر من دولة مستقلة وعاصمة لدولة عريضة الأرجاء إلى مجرد ولاية تابعة للدولة العثمانية، وفقدت بذلك استقلالها وريادتها السياسية في المنطقة، إلا أنها احتفظت بريادتها الثقافية والتعليمية، وظلت ملتقى العلماء من شتى الأقطار الإسلامية.  ومن أهم ما ساعد علي بقاء هذه الاستمرارية الثقافية، والتعليمية وجود الجامع الأزهر بها، الذي كان يعد قبلة العلم والعلماء في العالِم الإسلامي منذ إنشائه.
فمن حيث احتفاظ مصر بريادتها الثقافية بين أقطار العالِم الإسلامي في العصر العثماني واستمراريتها في ذلك، فقد كان علماء تلك الأقطار يخاطبون علماء مصر ويستفتوهم في كثير من القضايا، ومن ذلك ما حدث في بدايات القرن الـ17، من ظهور حادثة التدخين، التي أثارت انتباه المسلمين، وكثُرت تساؤلهم حول هذا الحدث الجديد عليهم، فتناولته أقلام العلماء في مختلف الأقطار الإسلامية للبت وبيان حكم الإسلام فيه، فمنهم من قال فيه بالحِل، ومنهم من قال بالحرمة، ونتيجة لذلك كثر إرسال التساؤلات من علماء تلك الأقطار إلى علماء مصر للإستعانة برأيهم، فها هم علماء السودان قد أرسلوا إلى علماء مصر للأخذ بفتواهم في حكم هذه العادة المستحدثة.
هذا بخلاف الأسئلة الفقهية التي كانت ترد من الشام إلى مصر، و قدوم الدارسين من شتي أقطار العالِم الإسلامي، للتعلم فيها وأخذ الاجازات عن علمائها، فبلغ علماء تلك الأقطار الغاية في العلم والإجادة في وضع المصنفات.  ومما لا شك فيه أنه قد تفاوتت تلك الأقطار فيما بينها من حيث خروج طلبة العلم والعلماء منه قاصدين مصر للتعليم،  وسنتناول هنا أهم الأقاليم التي وفد طلابها بصورة منتظمة لتلقي العلم في الأزهر الشريف.


مصر في العهد العثماني: المؤسسات التعليمية (4)

بسم الله الرحمن الرحيم
1- أهل الشام وتلقي العلم بالأزهر الشريف:
ويأتي في مقدمة هذه الأقطار إقبالًا علي لتعليم بمصر "أهل الشام"، ولعل هذا يرع إلى عمق الجذور التاريخية التي كانت تربط بين كلا القطرين – المصري والشامي –، والتي لم تكن وليدة العصر العثماني بل تعود إلى ما سبقة من عصور، حيث كانا جزءا من دولة واحدة، كما نجد أن كتب التراجم مليئة بالشخصيات الشامية التي نالت تعليمها بمصر – خلال العصر العثماني – وأخذت الإجازات العلمية منها، كالشيخ العالِم "حسن بن زين الدين الشهيد" – الشهير بالعاملي الشامي (ت1602)، ومنهم كذلك الشيخ العالِم "مرعي بن يوسف الحنبلي" (ت1623)، والشيخ العالِم "علي الحلبي الشافعي" (ت1634) وآخرين.


2- المغرب:
تعد العلاقات الثقافية العلمية بين مصر والمغرب من أقوي العلاقات، وتمتد إلى بدايات الفتح الإسلامي لكلا البلدين، فعند دخول الإسلام إلى الأراضي المغربية، أخذت أفواج الدعاة المسلمين تنطلق من مصر – مركز الفاتحين لشمال أفريقيا – إلى البلاد المغربية؛ لترسيخ مفاهيم الإسلام ونشر علومه بين ساكني تلك الأراضي، واستمرت هذه العلاقة مترابطة على مر العهود والعصور، حتي مجيء العصر العثماني الذي قويت فيه العلاقة وزاد التواجد المغربي في مصر بصورة كبيرة علي الرغم من وجوده من قبل، بحيث مثلت فيه مصر المحور الأساسي لنشاط المغاربة الاقتصادي في المشرق العربي، كما كانت قبلتهم الثقافية والعلمية التي إلىها يحجون؛ ليدرِسوا ويدرسوا بأزهرها الشريف، ومدارسها المنتشرة في القاهرة ومدنها الأخرى، ومن أهمها الإسكندرية.

ويأتي علي رأس هؤلاء الشيخ العالِم "أبو العباس أحمد المقري"، الذي استقر بمصر منذ أن وصل إلى القاهرة عام (1617) حتي توفي فيها عي عام (1631)، وقد زار دمشق مرة واحدة، غير أنه لم يقضي فيها أكثر من شهرين، وقد وضع في هذه الأعوام الأربعة عشر أهم مؤلفاته وأكثرها قيمة ويأتي علي رأسها كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب".
ولم تقف العلاقات الثقافية العلمية بين المغرب ومصر علي مستوي الأفراد فقط، بل امتدت علي مستوى الحكومات كذلك، إذ أن فترات استقرار السلطة المغربية صحبتها ظاهرة صحية، تمثلت في بذل السلاطين كل عناية لتوطيد العلاقات الثقافية لبلادهم مع بلاد المشرق خاصة مصر، فمن ذلك ما شهدته حكومة "مولاي المنصور" حيث راسل علماء مصر يطلب مؤلفاتهم، ويأخذ منهم الإجازات. ومن العلماء الذين راسلهم الشيخ البكري الصديقي (ت1585)، والشيخ "الإمام أبو محمد ابن يحيي المصري" الشهير بـ "بدر الدين القرافي المالكي"، الذي طلب منه المنصور إجازة فبادر الشيخ القرافي بتقديمها له، وهي مؤرخة في عام (1591).
ومما لوحظ أيضا أن المنصور لم يقتصر في علاقاته بعلماء مصر علي مجرد التراسل، بل أنه أرسل بعض أبناء المغرب النابغين للدراسة، وهو أشبه بإرسال البعوث العلمية في وقتنا الحاضر، ومن هؤلاء الفقيه العالِم "أبو محمد عبد الله بن محمد علي الجزولي الدرعي"، الذي أخذ عن علماء مصر مثل "نجم الدين الغيطي"، و"محمد بن أبي بكر العلقمي".

3- السودان:
اعتمد السودانيين على العلماء المصريين في حسم بعض الخلافات والمستجدات، وهذا يكشف لنا أن ثقافة هذا البلد سواء الدينية أو العلمية قد ارتبطت بالثقافة المصرية التي تنبع من أزهرها الشريف، وكما ربط النيل بين البلدين، استمر الرباط قويًا بفضل الأزهر واللقاءات العلمية. وخليق بناء أن نشير إلى أن الحكومات السودانية في تلك الفترة، عملت على إحياء حركة ثقافية وتعليمية نشطة بممالكها، وذلك بإنشاء الكثير من المؤسسات التعليمية، وإقامة علاقة طيبة مع علماء مصر، وذلك بإرسال الهدايا إلىهم، والعمل علي استقطاب نماذج منهم للقيام بنشر الثقافة الدينية والتعليمية في ممالكهم. هذا فضلًا علي إرسال الكثير من أبنائهم لتلقي تعليمهم بالأزهر، ثم العودة مرة أخرى لنشر ما تعلموه في بلادهم.
فمن ذلك ما نراه من مؤسسي مملكة "سنار"، أو التي كانت تُعرف أيضا بـ"سلطنة الفونج" علي توثيق الصلة بينهم وبين علماء مصر، ومنهم الشيخ "عجيب ابن الشيخ عبد الله جماع" أحد مؤسسي مملكة سنار (1563 – 1610) لذي دعم الحياة الدينية في "السودان"، إذ بني المساجد ودور العلم في أنحاء البلاد، وفي عهده – الذي استمر سنين عددا – أقبل كثير من العلماء المسلمين إلى البلاد، حيث لقي هؤلاء ما يستحقون من التكريم والقبول، وهو الذي بني رواقًا في المدينة المنورة لإيواء السودانيين، وآخر في مصر لطلاب العلم السودانيين في الأزهر الشريف، وثمة ملك آخر من ملوك سنار، وهو الملك بادي الأول (1611 – 1616).
ولعل هذا الأمر من اهتمام ملوك سنار عند قيامهم بتأسيسها علي خطي علمية وثقافية ثابتة، واهتمام زائد بإنعاش تلك النهضة العلمية باستقطاب العلماء، وإرسال الهدايا لهم، ومدح العلماء لهؤلاء الملوك، ليذكرنا بأمجاد خلفاء وسلاطين المسلمين في عصورهم الزاهرة، من بعث وقيام نهضة علمية شهدت الدنيا بأسرها علي قوتها، ولعل أهم ما في هذا الأمر اعتماد ملوك السودان علي علماء مصر عند محاولة النهوض ببلادهم علميًا، فتلك شهادة بريادة مصر الثقافية والتعليمية آنذاك.
ولم يقف حد ارتباط علماء السودان بعلماء مصر بالتعليم علي أيديهم والسير علي نهجهم في طريق التدريس كما رأينا، بل كانوا حريصين أيضًا علي اقتناء وجمع الكتب التي يؤلفها علماء مر أولًا بأول، ومن السهل علينا إذا أن نلمس إلى أي مدى اعتمدت ثقافة السودان وحركته التعليمية علي علماء الأزهر بمصر وما ضمه من قدرات علمية ذات كفاءة، استطاعت أن تجعل مصر تحتفظ بريادتها الثقافية والتعليمية في العالِم الإسلامي.


4- الحجاز:
تعد مدن الحجاز وأهمها مكة والمدينة من المدن الهامة التي كانت بينها وبين مصر علاقات ثقافية وعلمية وثيقة علي مر العصور، ومن أهم ما يُلاحظ علي شكل العلاقة الثقافية والعلمية بين الحجاز ومصر أنها كانت تأخذ شكلًا مغايرًا، عما لمسناه من علاقة ثقافية بين مصر وبعض الأقطار الأخرى كالشام والمغرب، فبينما كانت العلاقات الثقافية والعلمية بين مصر وكل من الشام والمغرب تتركز معظمها في هجرة الكثير من طلاب تلك البقاع إلى مصر لتلقي التعليم بها، نجد أن هجرة طلبة العلم من مكة والمدينة والمناطق المحيطة بها إلى مصر أقل من غيرها بكثير، ويرجع ذلك إلى ما تمتعت به المدينتين من وجود الحرمين الشريفين بهما، حيث يُفضل الكثير من العلماء المجاورة بهما، الأمر الذي كان يوفر لطلبة تلك البقاع الأخذ عن هؤلاء العلماء، وعدم تكلف المشاق في الرحلة طلبا للعلم عبر الأقطار.
ولا يعني هذا عدم الصلة بين الطلبة من مكة والمدينة ومصر، وحضورهم إلىها طلبًا للعمل، حيث وجد ذلك بأعداد قليلة.

5- اليمن:
استفاد اليمنيون من قرب بلادهم من الحرمين الشريفين، وكان لهذا أثره علي العلاقة الثقافية العلمية بينهم وبين مصر، حيث أن الكثير من طلبة العلم باليمن، كانوا يفضلون الأخذ عن العلماء الوافدين إلى الحرمين الشريفين. ومن علماء اليمن الذين أخذوا عن علماء مصر أثناء تواجدهم بالحرمين الشريفين، الشيخ العالِم "عبد الجامع بن أبي بكر الحضرمي" (ت1671) الذي رحل إلى مكة وأقام بها مدة، فأخذ بها عن الوافدين إليها من أهل مصر، ومنهم الشيخ العالِم "الشمس البابلي الشافعي" وغيره الكثير.
هذا وفي الوقت نفسة وجد هناك بعض الطلبة اليمنيين الذين حرصوا علي تعليمهم بمصر، والبقاء فيها فأثروا الحياة الثقافية بمؤلفاتهم وإسهاماتهم وعلي رأس هؤلاء الشيخ العالِم "عبد الرحمن بن شحاذة اليمني" (ت1640).

6- إسطنبول:
بذل العثمانيون كل ما في وسعهم لتكون عاصمة دولتهم أرفع شأنا من مثيلاتها من مدن العالِم الإسلامي قاطبة، وخاصة في المجالات العلمية والثقافية، وقد وضح ذلك عندما قام السلطان "سليم الأول" بتسفير علماء ومشاهير وأرباب الصنائع من مصر لإسطنبول، وأرباب بعض الفئات الاجتماعية الأخرى -وقد عادوا لمصر في عهد القانوني- إضافة إلى نقل كثير من نفائس الكتب من مصر إلى عاصمة الدولة، ولكنا نراهم قد اشترطوا فيمن يتولى رئاسة القضاء، أن يدرس بالعاصمة وفي مدارسها الثمانية، وإن كانت إسطنبول بفضل ذلك استطاعت أن تجذب إلىها أنظار الكثر من طلبة العلم من أقطار العالِم الإسلامي للتعلم بها، وخاصة للحصول علي الوظائف في أوطانهم عند العودة، إلا أنها لم تستطيع أن تؤثر كثيرًا علي الوضعية العلمية والثقافية التي كانت تتمتع بها مصر آنذاك بفضل أزهرها الشريف.
حيث نري أن هناك من علماء عثمانيين من رحل إلى مصر لتلقي التعليم بها، ونيل الإجازات العلمية من علمائها، هذا فضلًا عن الذين فضلوا البقاء والإقامة بمصر، ومما هو جدير بالذكر أن الكثير ممن كانو يرحلون إلى عاصمة الدولة إسطنبول لتلقى التعليم بها، كان يمر بالقاهرة لأخذ العلم عن علمائها أيضًا.
أما عن الذين رحلوا إلى مصر من عاصمة الدولة، وفضلوا البقاء بمصر، واسهموا في الحركة الوطنية التعليمية به.فمنهم الشيخ العالِم محمد بن محمد المعروف بـ "ألتي بمرق" الذي سبقت الإشارة إليه وإلى جهوده في إنشاء مدرسة باسمه في مصر، والشيخ العالِم "مصطفي بن أحمد بن مصطفي البولوي" (ت1679) مفتي السلطنة، وعالِم علمائها، ورئيس نبلائها آنذاك الذي تولي قضاء العسكريين، ثم الإفتاء بالعاصمة، ثم عزل وأمر بالتوجه إلى مصر، وأُعطي قضاء الفيوم، فأقام بمصر يُقرئ ويدرس ببيته وأقبل عليه الناس إقبالا عظيمًا لتواضعه ولطف معاملته.

7- العراق:
من الأقاليم الإسلامية التي كانت بينها وبين مصر علاقات علمية وثقافية قوية في تلك الفترة، إقليم العراق، ومن فرط هذه العلاقة كان يوجد بالجامع الأزهر - آنذاك - رواق خاص بالأكراد. ولعل من أهم علماء ذلك الإقليم، والذي توطن بمصر بعد زيارته لها، وأخذ عن مشاهير العلماء بها، وأسهم كثيرا في الحية العلمية بمصر بفضل مؤلفاته القيمة والغنية الشيخ العالِم "عبد القادر بن عمر البغدادي" إلى مصر وقدمها سنة 1640م فأخذ فنون العربية عن مع من علمائها منهم الشيخ العالِم "شهاب الدين أحمد الخفاجي"، والشيخ المحقق "سري الدين الدروزي"، والعالِم "إبراهيم الميموني"، والعالِم "ياسين ابن زيد الدين الحمصي"، وغيرهم الكثير. وهكذا كان العراق أحد الأقاليم ذات الصلة العلمية بالأزهر وبعلماء مصر، ويلاحظ هنا أن علماء العراق هم الذين كانوا يأتون إلى مصر.

8- بلاد الشرق الإسلامي : (فارس – ما وراء النهر – الهند).
كانت لهذه البلاد علاقات ثقافية وعلمية وثيقة مع مصر في ذلك الحين، وليس ثمة ما هو أدل علي ذلك من وجود رواق للمنتمين لبلاد فارس بالجامع الأزهر كان – يطلق عليه " رواق العجم " ومن كثرة عدد المجاورين من تلك البقع كان يوجد شيخ ينظم أمورهم، أطلق عليه شيخ طائفة الأعاجم المجاورين بالجامع الأزهر. ولم يقتصر هذا الأمر علي أهل فارس فقط، بل وجدت ثمة بعض المؤسسات الدينية والإجتماعية التي تجمع الهنود المجاورين بمصر كالزاوية التي كانت تنسب إليهم، والتي كانت تقع أسفل البيمارستان القديم.
وقد زار مصر الكثير من أبناء تلك الأقطار وتلقوا العلم علي يد علمائها – الشيخ "محمد بك ابن أبار محمد بن خواجة بن مير موهب" البخاري الأصل البرهانبوري المولد والمنشأ. كان مولده ببرهانبور في (1613) ومن الحق قولة - في هذا الصدد - أن هذا العالِم عند قراءة سيرته يعطينا انطباعا صادقًا عن مدي الجدية التي كان يبذلها بعض علماء ذلك الحين إن لم يكن معظمها في البحث عن العلم وتلقيه علي أيدي الكثير من العلماء، حيث نري هذا العالِم جاب أكثر من تسع عشرة بلدة أو مدينة من مدن الهند، يأخذ العلم من علمائها قبل ارتحالة إلى البلاد الإسلامية العربية، إذ نراه قد انتقل من برهانبور إلى تمكتا، ثم لاهور، ثم المقزي، ثم كشمير، ثم عاد إلى لاهور مرة أخرى، ومنها انتق إلى دهلي جاد أباد، ثم دهلي، ثم فراء أباد، ثم هونبور، ثم رد يكنة، ثم درينكة، ثم راجلكي، ثم أخمير، ثم أجين، ثم عاد إلى برهانبور مرة أخرى، ومنها إلى ماكتا بور، ثم بدرنورت، ثم أحمد أباد، ثم سورت، ومنها بدأ رحلته إلى البلاد العربية حيث أنتقل منها إلى المخا، ثم زبيد، ثم مكة المكرمة، ثم المدينة المنورة، ومنها إلى مصر حيث قرأ في أزهرها الشريف ألفية العراقي في "أصول الحديث"، و"الجامع الصغير" للسيوطي، ثم سافر إلى دمياط، ومنها إلى غزة، ثم زار بيت المقدس، ثم رجع إلى مكة المكرمة.

وبهذا يكون قد أتضح لنا مدي غني مصر بالمؤسسات التعليمية. فقد تضمن الحديث إلقاء الضوء علي نماذج وأعداد من تلك المؤسسات، وهو ما يمثل ردا كافيا علي المقولات التي رددت بأن العصر العثماني شهد تخلفا في الجوانب التعليمية والحضارية. على أن أهم ما أبرزته الدراسة في هذا الشأن مدى تكاتف أفراد المجتمع المصري مع العلماء علي المحافظة علي التراث الحضاري ممثلا في المؤسسات التعليمية، التي تعد من أهم مقومات الحركة التعليمية والثقافية لدى الأمم. ليس هذا فحسب بل ظهرت جهودهم كذلك في النهوض بهذه المؤسسات، والعمل علي زيادتها لاستيعاب أعداد التلاميذ والطلبة، وظهر هذا جليا من إقدام أفراد مجتمع تلك الفترة علي الإكثار من إنشاء الكتاتيب، حتي يمكنهم استيعاب الأعداد الكبيرة من طالبي العلم.
كما لاحظنا أيضا أن الأمر لم يقف عند حد إنشاء المؤسسات التعليمية فحسب، بل رأينا أن أفراد المجتمع سارعوا إلى توفير الكتاب، المقوم الثاني والأهم للحركة التعليمية والثقافية، وتقديمه بسهولة ويسر للطلبة آنذاك، حيث تبارى أصحاب المكتبات الخاصة بوقف كتبهم علي طلبة العلم بمصر.