بسم الله الرحمن الرحيم
1- أهل الشام وتلقي العلم بالأزهر الشريف:
ويأتي في مقدمة هذه الأقطار إقبالًا علي لتعليم بمصر "أهل الشام"، ولعل هذا يرع إلى عمق الجذور التاريخية التي كانت تربط بين كلا القطرين – المصري والشامي –، والتي لم تكن وليدة العصر العثماني بل تعود إلى ما سبقة من عصور، حيث كانا جزءا من دولة واحدة، كما نجد أن كتب التراجم مليئة بالشخصيات الشامية التي نالت تعليمها بمصر – خلال العصر العثماني – وأخذت الإجازات العلمية منها، كالشيخ العالِم "حسن بن زين الدين الشهيد" – الشهير بالعاملي الشامي (ت1602)، ومنهم كذلك الشيخ العالِم "مرعي بن يوسف الحنبلي" (ت1623)، والشيخ العالِم "علي الحلبي الشافعي" (ت1634) وآخرين.
2- المغرب:
تعد العلاقات الثقافية العلمية بين مصر والمغرب من أقوي العلاقات، وتمتد إلى بدايات الفتح الإسلامي لكلا البلدين، فعند دخول الإسلام إلى الأراضي المغربية، أخذت أفواج الدعاة المسلمين تنطلق من مصر – مركز الفاتحين لشمال أفريقيا – إلى البلاد المغربية؛ لترسيخ مفاهيم الإسلام ونشر علومه بين ساكني تلك الأراضي، واستمرت هذه العلاقة مترابطة على مر العهود والعصور، حتي مجيء العصر العثماني الذي قويت فيه العلاقة وزاد التواجد المغربي في مصر بصورة كبيرة علي الرغم من وجوده من قبل، بحيث مثلت فيه مصر المحور الأساسي لنشاط المغاربة الاقتصادي في المشرق العربي، كما كانت قبلتهم الثقافية والعلمية التي إلىها يحجون؛ ليدرِسوا ويدرسوا بأزهرها الشريف، ومدارسها المنتشرة في القاهرة ومدنها الأخرى، ومن أهمها الإسكندرية.
ويأتي علي رأس هؤلاء الشيخ العالِم "أبو العباس أحمد المقري"، الذي استقر بمصر منذ أن وصل إلى القاهرة عام (1617) حتي توفي فيها عي عام (1631)، وقد زار دمشق مرة واحدة، غير أنه لم يقضي فيها أكثر من شهرين، وقد وضع في هذه الأعوام الأربعة عشر أهم مؤلفاته وأكثرها قيمة ويأتي علي رأسها كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب".
ولم تقف العلاقات الثقافية العلمية بين المغرب ومصر علي مستوي الأفراد فقط، بل امتدت علي مستوى الحكومات كذلك، إذ أن فترات استقرار السلطة المغربية صحبتها ظاهرة صحية، تمثلت في بذل السلاطين كل عناية لتوطيد العلاقات الثقافية لبلادهم مع بلاد المشرق خاصة مصر، فمن ذلك ما شهدته حكومة "مولاي المنصور" حيث راسل علماء مصر يطلب مؤلفاتهم، ويأخذ منهم الإجازات. ومن العلماء الذين راسلهم الشيخ البكري الصديقي (ت1585)، والشيخ "الإمام أبو محمد ابن يحيي المصري" الشهير بـ "بدر الدين القرافي المالكي"، الذي طلب منه المنصور إجازة فبادر الشيخ القرافي بتقديمها له، وهي مؤرخة في عام (1591).
ومما لوحظ أيضا أن المنصور لم يقتصر في علاقاته بعلماء مصر علي مجرد التراسل، بل أنه أرسل بعض أبناء المغرب النابغين للدراسة، وهو أشبه بإرسال البعوث العلمية في وقتنا الحاضر، ومن هؤلاء الفقيه العالِم "أبو محمد عبد الله بن محمد علي الجزولي الدرعي"، الذي أخذ عن علماء مصر مثل "نجم الدين الغيطي"، و"محمد بن أبي بكر العلقمي".
3- السودان:
اعتمد السودانيين على العلماء المصريين في حسم بعض الخلافات والمستجدات، وهذا يكشف لنا أن ثقافة هذا البلد سواء الدينية أو العلمية قد ارتبطت بالثقافة المصرية التي تنبع من أزهرها الشريف، وكما ربط النيل بين البلدين، استمر الرباط قويًا بفضل الأزهر واللقاءات العلمية. وخليق بناء أن نشير إلى أن الحكومات السودانية في تلك الفترة، عملت على إحياء حركة ثقافية وتعليمية نشطة بممالكها، وذلك بإنشاء الكثير من المؤسسات التعليمية، وإقامة علاقة طيبة مع علماء مصر، وذلك بإرسال الهدايا إلىهم، والعمل علي استقطاب نماذج منهم للقيام بنشر الثقافة الدينية والتعليمية في ممالكهم. هذا فضلًا علي إرسال الكثير من أبنائهم لتلقي تعليمهم بالأزهر، ثم العودة مرة أخرى لنشر ما تعلموه في بلادهم.
فمن ذلك ما نراه من مؤسسي مملكة "سنار"، أو التي كانت تُعرف أيضا بـ"سلطنة الفونج" علي توثيق الصلة بينهم وبين علماء مصر، ومنهم الشيخ "عجيب ابن الشيخ عبد الله جماع" أحد مؤسسي مملكة سنار (1563 – 1610) لذي دعم الحياة الدينية في "السودان"، إذ بني المساجد ودور العلم في أنحاء البلاد، وفي عهده – الذي استمر سنين عددا – أقبل كثير من العلماء المسلمين إلى البلاد، حيث لقي هؤلاء ما يستحقون من التكريم والقبول، وهو الذي بني رواقًا في المدينة المنورة لإيواء السودانيين، وآخر في مصر لطلاب العلم السودانيين في الأزهر الشريف، وثمة ملك آخر من ملوك سنار، وهو الملك بادي الأول (1611 – 1616).
ولعل هذا الأمر من اهتمام ملوك سنار عند قيامهم بتأسيسها علي خطي علمية وثقافية ثابتة، واهتمام زائد بإنعاش تلك النهضة العلمية باستقطاب العلماء، وإرسال الهدايا لهم، ومدح العلماء لهؤلاء الملوك، ليذكرنا بأمجاد خلفاء وسلاطين المسلمين في عصورهم الزاهرة، من بعث وقيام نهضة علمية شهدت الدنيا بأسرها علي قوتها، ولعل أهم ما في هذا الأمر اعتماد ملوك السودان علي علماء مصر عند محاولة النهوض ببلادهم علميًا، فتلك شهادة بريادة مصر الثقافية والتعليمية آنذاك.
ولم يقف حد ارتباط علماء السودان بعلماء مصر بالتعليم علي أيديهم والسير علي نهجهم في طريق التدريس كما رأينا، بل كانوا حريصين أيضًا علي اقتناء وجمع الكتب التي يؤلفها علماء مر أولًا بأول، ومن السهل علينا إذا أن نلمس إلى أي مدى اعتمدت ثقافة السودان وحركته التعليمية علي علماء الأزهر بمصر وما ضمه من قدرات علمية ذات كفاءة، استطاعت أن تجعل مصر تحتفظ بريادتها الثقافية والتعليمية في العالِم الإسلامي.
4- الحجاز:
تعد مدن الحجاز وأهمها مكة والمدينة من المدن الهامة التي كانت بينها وبين مصر علاقات ثقافية وعلمية وثيقة علي مر العصور، ومن أهم ما يُلاحظ علي شكل العلاقة الثقافية والعلمية بين الحجاز ومصر أنها كانت تأخذ شكلًا مغايرًا، عما لمسناه من علاقة ثقافية بين مصر وبعض الأقطار الأخرى كالشام والمغرب، فبينما كانت العلاقات الثقافية والعلمية بين مصر وكل من الشام والمغرب تتركز معظمها في هجرة الكثير من طلاب تلك البقاع إلى مصر لتلقي التعليم بها، نجد أن هجرة طلبة العلم من مكة والمدينة والمناطق المحيطة بها إلى مصر أقل من غيرها بكثير، ويرجع ذلك إلى ما تمتعت به المدينتين من وجود الحرمين الشريفين بهما، حيث يُفضل الكثير من العلماء المجاورة بهما، الأمر الذي كان يوفر لطلبة تلك البقاع الأخذ عن هؤلاء العلماء، وعدم تكلف المشاق في الرحلة طلبا للعلم عبر الأقطار.
ولا يعني هذا عدم الصلة بين الطلبة من مكة والمدينة ومصر، وحضورهم إلىها طلبًا للعمل، حيث وجد ذلك بأعداد قليلة.
5- اليمن:
استفاد اليمنيون من قرب بلادهم من الحرمين الشريفين، وكان لهذا أثره علي العلاقة الثقافية العلمية بينهم وبين مصر، حيث أن الكثير من طلبة العلم باليمن، كانوا يفضلون الأخذ عن العلماء الوافدين إلى الحرمين الشريفين. ومن علماء اليمن الذين أخذوا عن علماء مصر أثناء تواجدهم بالحرمين الشريفين، الشيخ العالِم "عبد الجامع بن أبي بكر الحضرمي" (ت1671) الذي رحل إلى مكة وأقام بها مدة، فأخذ بها عن الوافدين إليها من أهل مصر، ومنهم الشيخ العالِم "الشمس البابلي الشافعي" وغيره الكثير.
هذا وفي الوقت نفسة وجد هناك بعض الطلبة اليمنيين الذين حرصوا علي تعليمهم بمصر، والبقاء فيها فأثروا الحياة الثقافية بمؤلفاتهم وإسهاماتهم وعلي رأس هؤلاء الشيخ العالِم "عبد الرحمن بن شحاذة اليمني" (ت1640).
6- إسطنبول:
بذل العثمانيون كل ما في وسعهم لتكون عاصمة دولتهم أرفع شأنا من مثيلاتها من مدن العالِم الإسلامي قاطبة، وخاصة في المجالات العلمية والثقافية، وقد وضح ذلك عندما قام السلطان "سليم الأول" بتسفير علماء ومشاهير وأرباب الصنائع من مصر لإسطنبول، وأرباب بعض الفئات الاجتماعية الأخرى -وقد عادوا لمصر في عهد القانوني- إضافة إلى نقل كثير من نفائس الكتب من مصر إلى عاصمة الدولة، ولكنا نراهم قد اشترطوا فيمن يتولى رئاسة القضاء، أن يدرس بالعاصمة وفي مدارسها الثمانية، وإن كانت إسطنبول بفضل ذلك استطاعت أن تجذب إلىها أنظار الكثر من طلبة العلم من أقطار العالِم الإسلامي للتعلم بها، وخاصة للحصول علي الوظائف في أوطانهم عند العودة، إلا أنها لم تستطيع أن تؤثر كثيرًا علي الوضعية العلمية والثقافية التي كانت تتمتع بها مصر آنذاك بفضل أزهرها الشريف.
حيث نري أن هناك من علماء عثمانيين من رحل إلى مصر لتلقي التعليم بها، ونيل الإجازات العلمية من علمائها، هذا فضلًا عن الذين فضلوا البقاء والإقامة بمصر، ومما هو جدير بالذكر أن الكثير ممن كانو يرحلون إلى عاصمة الدولة إسطنبول لتلقى التعليم بها، كان يمر بالقاهرة لأخذ العلم عن علمائها أيضًا.
أما عن الذين رحلوا إلى مصر من عاصمة الدولة، وفضلوا البقاء بمصر، واسهموا في الحركة الوطنية التعليمية به.فمنهم الشيخ العالِم محمد بن محمد المعروف بـ "ألتي بمرق" الذي سبقت الإشارة إليه وإلى جهوده في إنشاء مدرسة باسمه في مصر، والشيخ العالِم "مصطفي بن أحمد بن مصطفي البولوي" (ت1679) مفتي السلطنة، وعالِم علمائها، ورئيس نبلائها آنذاك الذي تولي قضاء العسكريين، ثم الإفتاء بالعاصمة، ثم عزل وأمر بالتوجه إلى مصر، وأُعطي قضاء الفيوم، فأقام بمصر يُقرئ ويدرس ببيته وأقبل عليه الناس إقبالا عظيمًا لتواضعه ولطف معاملته.
7- العراق:
من الأقاليم الإسلامية التي كانت بينها وبين مصر علاقات علمية وثقافية قوية في تلك الفترة، إقليم العراق، ومن فرط هذه العلاقة كان يوجد بالجامع الأزهر - آنذاك - رواق خاص بالأكراد. ولعل من أهم علماء ذلك الإقليم، والذي توطن بمصر بعد زيارته لها، وأخذ عن مشاهير العلماء بها، وأسهم كثيرا في الحية العلمية بمصر بفضل مؤلفاته القيمة والغنية الشيخ العالِم "عبد القادر بن عمر البغدادي" إلى مصر وقدمها سنة 1640م فأخذ فنون العربية عن مع من علمائها منهم الشيخ العالِم "شهاب الدين أحمد الخفاجي"، والشيخ المحقق "سري الدين الدروزي"، والعالِم "إبراهيم الميموني"، والعالِم "ياسين ابن زيد الدين الحمصي"، وغيرهم الكثير. وهكذا كان العراق أحد الأقاليم ذات الصلة العلمية بالأزهر وبعلماء مصر، ويلاحظ هنا أن علماء العراق هم الذين كانوا يأتون إلى مصر.
8- بلاد الشرق الإسلامي : (فارس – ما وراء النهر – الهند).
كانت لهذه البلاد علاقات ثقافية وعلمية وثيقة مع مصر في ذلك الحين، وليس ثمة ما هو أدل علي ذلك من وجود رواق للمنتمين لبلاد فارس بالجامع الأزهر كان – يطلق عليه " رواق العجم " ومن كثرة عدد المجاورين من تلك البقع كان يوجد شيخ ينظم أمورهم، أطلق عليه شيخ طائفة الأعاجم المجاورين بالجامع الأزهر. ولم يقتصر هذا الأمر علي أهل فارس فقط، بل وجدت ثمة بعض المؤسسات الدينية والإجتماعية التي تجمع الهنود المجاورين بمصر كالزاوية التي كانت تنسب إليهم، والتي كانت تقع أسفل البيمارستان القديم.
وقد زار مصر الكثير من أبناء تلك الأقطار وتلقوا العلم علي يد علمائها – الشيخ "محمد بك ابن أبار محمد بن خواجة بن مير موهب" البخاري الأصل البرهانبوري المولد والمنشأ. كان مولده ببرهانبور في (1613) ومن الحق قولة - في هذا الصدد - أن هذا العالِم عند قراءة سيرته يعطينا انطباعا صادقًا عن مدي الجدية التي كان يبذلها بعض علماء ذلك الحين إن لم يكن معظمها في البحث عن العلم وتلقيه علي أيدي الكثير من العلماء، حيث نري هذا العالِم جاب أكثر من تسع عشرة بلدة أو مدينة من مدن الهند، يأخذ العلم من علمائها قبل ارتحالة إلى البلاد الإسلامية العربية، إذ نراه قد انتقل من برهانبور إلى تمكتا، ثم لاهور، ثم المقزي، ثم كشمير، ثم عاد إلى لاهور مرة أخرى، ومنها انتق إلى دهلي جاد أباد، ثم دهلي، ثم فراء أباد، ثم هونبور، ثم رد يكنة، ثم درينكة، ثم راجلكي، ثم أخمير، ثم أجين، ثم عاد إلى برهانبور مرة أخرى، ومنها إلى ماكتا بور، ثم بدرنورت، ثم أحمد أباد، ثم سورت، ومنها بدأ رحلته إلى البلاد العربية حيث أنتقل منها إلى المخا، ثم زبيد، ثم مكة المكرمة، ثم المدينة المنورة، ومنها إلى مصر حيث قرأ في أزهرها الشريف ألفية العراقي في "أصول الحديث"، و"الجامع الصغير" للسيوطي، ثم سافر إلى دمياط، ومنها إلى غزة، ثم زار بيت المقدس، ثم رجع إلى مكة المكرمة.
وبهذا يكون قد أتضح لنا مدي غني مصر بالمؤسسات التعليمية. فقد تضمن الحديث إلقاء الضوء علي نماذج وأعداد من تلك المؤسسات، وهو ما يمثل ردا كافيا علي المقولات التي رددت بأن العصر العثماني شهد تخلفا في الجوانب التعليمية والحضارية. على أن أهم ما أبرزته الدراسة في هذا الشأن مدى تكاتف أفراد المجتمع المصري مع العلماء علي المحافظة علي التراث الحضاري ممثلا في المؤسسات التعليمية، التي تعد من أهم مقومات الحركة التعليمية والثقافية لدى الأمم. ليس هذا فحسب بل ظهرت جهودهم كذلك في النهوض بهذه المؤسسات، والعمل علي زيادتها لاستيعاب أعداد التلاميذ والطلبة، وظهر هذا جليا من إقدام أفراد مجتمع تلك الفترة علي الإكثار من إنشاء الكتاتيب، حتي يمكنهم استيعاب الأعداد الكبيرة من طالبي العلم.
كما لاحظنا أيضا أن الأمر لم يقف عند حد إنشاء المؤسسات التعليمية فحسب، بل رأينا أن أفراد المجتمع سارعوا إلى توفير الكتاب، المقوم الثاني والأهم للحركة التعليمية والثقافية، وتقديمه بسهولة ويسر للطلبة آنذاك، حيث تبارى أصحاب المكتبات الخاصة بوقف كتبهم علي طلبة العلم بمصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق