السبت، 6 أبريل 2013

الطابعة والدولة العثمانية

بسم الله الرحمن الرحيم

موقف الدولة العثمانية من دخول المطبعة لأراضيها، من أحد أبرز الشبهات التي لاكتها ألسن كثيرة، وتستخدم دائمًا كدليل ضد الدولة العثمانية دون معرفة تفاصيل حقيقية عن هذا الموضوع المهم، وقبل الدخول في صلب الرد، أود أن أذكر أنه بعد وفاة السلطان "سليمان القانوني" -1566م- والذي بلغت في عهده الدولة أوج عظمتها واتساعها وقوتها، بدء الضعف والإهمال يدب في صلب الدولة رويدًا رويدًا، فضعفت الحركة العلمية بالتدريج ولم تصبح مثل سابق عهدها من قوة، ولم تعد الدولة تعير أهمية للتطورات الاقتصادية والعلمية الحادثة في العالم، ولا شك أنها دفعت فيما بعد ثمن هذا التصرف.

من المعروف ومتداول أن "يوهانس گوتنبرگ" المخترع الألماني هو أول من قام باختراع الطابعة عام 1455م، ولكن هذه المعلومة المشهورة يعتريها خطأ تاريخي؛ فـ "گوتنبرگ" لم يخترع المطبعة عام 1455بل عمل فقط على تطوير فن الطباعة؛ لأن فن الطباعة ظهر في القرن الثامن الميلادي في الصين، وحسب رأي بعض الباحثين ظهر عند أتراك "الأويغور"-وهم عرق تركي مسلم سني-، والأوساط العلمية الآن تقبل بأن أتراك "الأوي
گور" لعبوا دورًا أهم من الصينيين في نقل الطباعة إلى أوروپا. كما لم يكن "گوتنبرگ" الشخص الذي اخترع أحرف الطباعة المتحركة؛ لأن أتراك الأويگور وكذلك "الكوريين" كانوا أول من استعملوا هذه الأحرف في القرن الرابع عشر الميلادي. أي ظهرت الطباعة بهذا الشكل في أوروپا في القرن الرابع عشر الميلادي، وبفضل جهود "گوتنبرگ" أصبح من الممكن طبع الإنجيل في المطبعة عام 1455 أي في القرن الخامس عشر الميلادي.

تاريخ دخول أول مطبعة إلى الدولة العثمانية يرجع إلى العام 1488م وليس إلى عام 1727م، أي بعد 33 عامًا فقط من إنشائها في أوروپا؛ فدشن اليهود مطابعهم في هذا العام، والأرمن في 1567، والروم 1672، حتى أنه تم طبع 19 كتابًا في عهد السلطان "بايزيد الثاني" بن السلطان محمد الفاتح (حكم من 1481 إلى 1512) وكذلك 33 كتابًا في عهد السلطان سليم الأول (حكم من 1512إلى 1520)، وتوجد حتى الآن عبارة "طُبع هذا الكتاب تحت رعاية السلطان بايزيد الثاني" على بعض الكتب. أضف لهذا إجازة السلطان مراد الثالث (حكم من 1573 إلى 1595) بيع كتاب "أصول إقليدس" المطبوع بالعربية بكل حرية بفرمانه المؤرخ عام 1588.

يذكر المورخ العثماني "مصطفى نوري پاشا" أنه تُقدم بإذن لإنشاء مطبعة للدولة في عهد السلطان مراد الرابع (حكم من 1623م إلى 1640م)، ولكنها لم تتحقق بصورة عملية إلا في عام 1727م، كما يذكر المؤرخ "عطا" بأن أول محاولة لتأسيس مطبعة بدأت في عهد السلطان محمد الرابع (حكم من 1648م إلى 1687م).
وبناء على هذا يتضح أن تاريخ أول مطبعة رسمية في الدولة هو 1727م، وليس هو تاريخ دخول أول مطبعة إلى الدولة العثمانية، وأنه قد تم طبع كتب في إسطنبول وحلب اعتبارًا من القرن الرابع عشر.

أسباب عدم استساغة الدولة بشكل رسمي للطابعة:
أ- في الحقيقة مهما كانت الأسباب فإنه ليس هناك عذر للدولة العثمانية في بقائها بعيدة عن التكنولوجيا الجديدة، ولكن يمكن القول بأن هناك عدة أسباب منها ما يذكره الكونت "مارسيكلي" بأنه كان هناك 90 ألف خطاط في إسطنبول وحدها في عام 1727م، وحتى لو قبلنا بنصف هذا الرقم فهو رقم كبير، وقد كان للموقف الرافض للمستنسخين والمجلدين وصناع الأقلام والأحبار وما شابههم للمطبعة ووقوفهم ضدها أثرًا كبيرًا في تأخير تأسيس المطبعة الرسمية هذا الوقت من الزمن.
يقول الكونت "مارسيكلي": "لا يقوم الأتراك في الحقيقة بطبع كتبهم، ولا يرجع هذا أبدًا -كما قد يُظن- إلى كون طبع الكتب في المطبعة ممنوعًا عندهم."

ب- من الممكن والمحتمل أن بعض مدعي العلم قد أفتوا بعدم جواز إنشاء المطبعة وحرمتها، وقد حدث نفس الأمر في أوروپا أيضًا؛ ففي عام 1501م، أصدر البابا "ألكسندر السادس" أمرًا بحرق الكتب التي طُبعت دون رخص، وقام "هنري الثاني" ملك فرنسا بإعدام كل من يطبع كتب دون رخصة.
 
تأسيس المطبعة:
تم تأسيس المطبعة الرسمية للدولة في عهد السلطان "أحمد الثالث"، بسعي من الصدر الأعظم "الداماد إبراهيم پاشا"، وفي عام 1720م أرسل الصدر الأعظم السيد "محمد چلبي" سفيرًا للدولة العثمانية في باريس، وتيسرت له في السنوات التي قضاها في باريس مشاهدة وتدقيق المطابع عن قرب، وتم تأسيس المطبعة بعد عودته لإسطنبول، وتم كتابة اللوائح الخاصة بالمطبعة وتقديمها إلى الصدر الأعظم، وحول الصدر الأعظم هذه الائحة إلى شيخ الإسلام الذي أجاب هذا الجواب التاريخي: "إن قيام الماهرين في صناعة الطباعة بالطبع بشكل صحيح ودون أخطاء في وقت قصير ودون مشقة، سيؤدي إلى زيادة عدد نسخ الكتب وانتشارها بأسعار رخيصة، ولكن يجب تصحيح هذه الكتب من قبل العلماء".
وبعد صدور الفتوى، صدر الفرمان السلطاني في عام 1727م، وفي عام 1729م طُبع أول كتاب في المطبعة الرسمية للدولة، وهو معجم "وان قولو"، وكان هذا الفرمان السلطاني يمنع طباعة كتب التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام لبعض الوقت؛ خوفًا من طباعتهم وحدوث أخطاء بهم.
الخلاصة أن المطبعة لم تتأخر 272 عامًا في الدخول للدولة العثمانية، بل 33 عامًا فقط، ولكن تأسيس المطبعة الرسمية وطبع الكتب تأخر مع الأسف 200 عامًا للأسباب التي ذكرناها.

المصدر: الدولة العثمانية المجهولة، 303 سؤال وجواب توضح حقائق غائبة عن الدولة العثمانية، أحمد آق گوندوز، سعيد أوزتورك، وقف البحوث العثمانية، 2008 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق